لم تكن أبو ظبي حتى فترة قصيرة تتميّز بطموحات ثقافية مهمة. كان يبدو أنّ هذه الطموحات قد تُركت للشارقة، التي كانت تعتبر لفترة طويلة ومن دون منازع مركز الإمارات العربية المتحدة الثقافي. حتى أنّها كانت في سنة 1998 عاصمة اليونسكو الثقافية في العالم العربي (1). لكن من المعروف أنّ أبو ظبي تسعى من خلال المنطقة الثقافية في جزيرة السعديات إلى الوصول قريبًا إلى قمة العالم في هذا المجال أيضًا. بيد أنّ السؤال الذي يطرح نفسه، إلى أي مدى يتعلّق الأمر في ذلك بأكثر من مجرّد تسويق سياحي وتكوين صورة.
تعتبر المنشآت الثقافية في جزيرة السعديات جزءً من مشروع تنموي ضخم، يفترض أن تصبح من خلاله "جزيرة السعادة" أهم هدف ومحرّك للسياحة في أبو ظبي. وبناءً على ذلك تقع هذه المنشآت الثقافية أيضًا في مجال اختصاص شركة التطوير والاستثمار السياحي. لم تطلب شركة التطوير والاستثمار السياحي من مؤسسة غوغنهايم في نيويورك فقط إقامة متحف "غوغنهايم أبو ظبي"، بل طلبت كذلك إعداد خطة عمرانية شاملة لكل المنطقة الثقافية. قام طبقًا لهذا العطاء طاقم المختصين برئاسة مدير مؤسسة غوغنهايم توماس كرينس بتصميم "مجموعة حرجة" (2) من المتاحف والمنشآت الثقافية الأخرى، التي لا يلعب فيها المال على ما يبدو أيّ دور وقد أثار الإعلان عنها الضجة الإعلامية المرجوّة.
عندما يتحدّث المرء مع المطلعين من الداخل على المجريات والأحداث السياسية والثقافية في أبو ظبي، يعرف أنّ هناك أيضًَا آمالاً مختلفة تمام الاختلاف تُعقد على المنطقة الثقافية في جزيرة السعديات وليس فقط زيادة عدد السياح وشهرة المنطقة. سوف يكون من دون شكّ لعمل هذه المنشآت الثقافية المختلفة آثار بعيدة المدى على هذه الإمارة وعلى البلاد والمنطقة، الأمر الذي يتناسب تمامًا مع أهداف ورغبات مؤسسي هذه المنطقة الثقافية.
تُفسِّر المؤرّخة فراوكه هيرد باي (3) التي تعيش في أبو ظبي منذ العام 1967، هذا الانفتاح الجديد على أنّه نتيجة لتبدّل الحكم والجيل بعد رحيل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان (4) في شهر نوفمبر 2004. كان الشيخ زايد يحاول جاهدًا أثناء حكمه للإمارات الذي استمر تقريبًا أربعة عقود، وعلى الرغم من كلّ التجديد، عدم تعريض المفهوم الذاتي الخاص بالمواطنين الإماراتيين إلى تحديات كبيرة جدًا، حسب وصف فراوكه هيدر-باي. وفي المقابل يركّز التخطيط الجديد بشكل أقوى بكثير على التفاعل مع العالم.
أيّد هذا الرأي زكي نسيبة (5) الذي عمل في عهد الشيخ زايد ولا يزال مستشارًا شخصيًا لحاكم أبو ظبي الذي يعتبر في نفس الوقت رئيسًا لدولة الإمارات العربية المتحدة. يعتبر زكي نسيبة واحدًا من ممثّلي التطوّر الثقافي في الإمارات، بصفته نائبًا لرئيس مجلس إدارة هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث ومدير أو عضو مجلس إداري في العديد من الهيئات. بالنسبة له لا تحتل عملية إنعاش السياحة أو إبراز صورة أبو ظبي مكان الصدارة في المنطقة الثقافية في جزيرة السعديات، بل تتصدّرها رؤية تمتد إلى أبعد من ذلك بكثير، تأسيس تربوي وثقافي جديد يشجِّع الحضارة والتمدّن. يقول زكي نسيبة، إنّ أبو ظبي التي لديها احتياطات نفطية تكفي لأكثر من مائة عام، لا تحتاج على الإطلاق إلى التفكير في أرباح ومكاسب مالية: "يعتبر هذا المشروع واحدًا من مشاريع أبو ظبي الخاصة بالتطوير الثقافي وتثقيف شبابها. وهدفها هو مدّ الجسور إلى العالم والتوفيق من خلال ذلك ما بين تقاليدها وتراثها كبلد إسلامي وعربي وبين رؤية عامة حقًا، رؤية تشمل العالم". بل إنّ الإمارات مستعدّة - حسب تعبيره - لاستثمار مبالغ كبيرة في حضارة عالمية شاملة، تضم في رحابها الإنسان كمخلوق كوني بدون تمييز بين كونه من الشرق أو الغرب وبدون النظر إلى جذوره أو إلى أي دين يعتنق، بل تسعى لبناء الجسور بين الحضارات و الأمم.
لا تسعى أبو ظبي فقط من خلال المنشآت الثقافية المزمع بناؤها إلى الجمع ما بين مؤسسات وأشخاص يريدون المشاركة في تحقيق مثل هذه الرؤية. حيث توجد بموازاة ذلك حملة تطوير ثقافي في جميع المجالات: العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية والأبحاث الطبية والتقنيات الحديثة، إلخ. يفترض من خلال ذلك أن يتم جذب خبراء من كل أرجاء العالم - وخاصة من ذوي الأصول العربية - إلى أبو ظبي وأن يجدوا هناك مقرًا جديدًا. لقد أسّست جامعة السربون الباريسية فرعًا في أبو ظبي، يعمل زكي نسيبة عضوًا في مجلس إدارته. تخطّط جامعة يال الأمريكية لإنشاء معهد للفنون في مدينة أبو ظبي من الممكن أن يتم افتتاحه قريبا، كما تريد جامعة نيويورك بدء التدريس في عام 2010 في جامعة الشرق الأوسط.
يقول زكي نسيبة إنّ "الفن انفتاح على العالم"، لذلك سوف يتمكّن المرء من خلال دعم الفنون أيضًا من فعل شيء ضدّ مفهوم تصادم الحضارات وضدّ مختلف أشكال التطرّف الأصولي. من الممكن على كل حال أن تكون الثقافة أفضل من السياسة في إصلاح وجهة نظر ما، حسب قول زكي نسيبة. هناك حاجة إلى المعالم الثقافية، التي تم جلبها من الخارج إلى أبو ظبي والتي سوف تقدِّم أيضًا برامج تثقيفية، من أجل وضع مقاييس وجذب مؤسسات وخبراء، حسب قول زكي نسيبة؛ لكن من المهم جدًا أن لا يتم تجاوز التقاليد المحلية، بل مراعاتها وتعزيزها.
يؤيّد عمر سيف غباش (6) عبارة زكي نسيبة الأخيرة تأييدًا تامًا. وعمر غباش شريك في جاليري الخط الثالث في دبي (7)، الذي يعدّ في الوقت الحاضر أهم جاليري تجاري مختص بالفن المعاصر في الإمارات العربية المتحدة. يعمل عمر سيف غباش حاليًا في أبو ظبي نائبًا للرئيس التنفيذي لمؤسسة الإمارات (8) التي تأسست في العام 2005. يقول عمر غباش إنّ المؤسسة تركّز اهتمامها على الأفراد، من أجل "فهم الأمور من الأساس وتطوير عملها انطلاقًا من ذلك"، أي الاستماع للناس وفهم ما يحرّكهم. تعمل مؤسسة الإمارات على مستوى أقرب إلى "المستوى الإنساني" مقابل المشاريع الكبيرة ذات التوجّه العالمي. تقدّم هذه المؤسسة منذ العام 2007 منحًا وبعثات إلى مبدعين عاملين بالثقافة في كل المجالات الفنية والأدبية ممن يقيمون في الإمارات العربية المتحدة. يقول عمر غباش: "بالنسبة لي شخصيًا أشعر بأنني أفضل بكثير على المقياس الإنساني، إذ يمكن حل المشاكل انطلاق من هذا الإرث".
يعتقد عمر غباش أنّه لم يتم حتى الآن إطلاع المواطنين بشكل كاف على فائدة وهدف المنطقة الثقافية في جزيرة السعديات وآثارها على أبو ظبي وكلّ الإمارات. لم يُجرى التفكير والنقاش العلني بالحجم الضروري حول الأخطار المحتملة ولا حول الفرص الممكنة، حسب قول عمر غباش. بيد أنّه يأمل - على حد قوله - أن يجري ذلك، ففي آخر المطاف لا يزال هناك متّسع من الوقت من أجل ذلك أيضًا، إلى أن يتم افتتاح المنشآت الثقافية.
ينتشر على ما يبدو شيء من الشكوك والريبة حتى بين الفنانات والفانين الإماراتيين، الذين يجب أن يكون لديهم اهتمام حيوي بالمشاريع الثقافية في أبو ظبي. من الصعب، حسب رأي إبتسام عبد العزيز(9)، بالنسبة للكثيرين تصوّر أن يتم تطوير أبو ظبي من دون تقاليد مناسبة لتصبح عاصمة البلاد الثقافية وتتجاوز الشارقة. لا شكّ في أنّ معظم المبدعين العاملين بالثقافة تربطهم بالشارقة صلة أوثق بكثير، وذلك من خلال جمعية الإمارات للفنون التشكيلية التي تتخذ من الشارقة مقرًا لها ومتحف الشارقة للفنون وبينالي الشارقة (10) أو غير ذلك من معارض وفعاليات ومنشآت ثقافية.
يعرف أيضًا وبطبيعة الحال الفنانون المحليون حجم المبالغ الخيالية المخصصة للمتاحف في جزيرة السعديات. كذلك علموا بنية تشكيل مجموعات فنية خاصة، ستضم أيضًا الفن الإماراتي المعاصر بالذات - الأمر الذي يجب أن يكون أمرًا بديهيًا. لكن يبدو أنّه لا يوجد حتى الآن من جانب مؤسسات الدولة أيّة جهود من أجل ضمان أعمال مهمة من خلال شرائها. ومن ناحية أخرى يسبق الآخرون هذه المؤسسات منذ فترة طويلة، مثلما يقول محمد كاظم عن معرفة: "لقد لاحظنا في الأيام الأخيرة أنَّ هناك متاحف وجاليريهات ومؤسسات وأشخاصًا من الخارج اقتنوا الكثير من الأعمال المحلية، وعلى وجه التحديد من الجيل القديم والجيل الجديد. سوف تكون بطبيعة الحال عملية إعادة شراء تلك الإعمال صعبة، لذلك نأمل أن يزيد إدراك مؤسساتنا لمعنى هذه الأعمال الفنية" (11).
رغم الشك ورغم خيبة الأمل في عدم إشراكهم بشكل أقوى، إلاّ أنّ هناك موافقة مبدئية لدى الفانانات والفانانين على ما يتم التخطيط له في أبو ظبي من الناحية الثقافية. إذ سُمعت قبل أيام من الحديث مع زكي نسيبة وعلى نحو يثير الدهشة آراء مشابهة من قبل حسن شريف في دبي (12). يرى هذا الفنان والمنظّر والشخص الأساسي في وسط مهتم بالفن التجريبي في الإمارات أن هناك فجوة عميقة بين الشرق والغرب، توسّعت كثيرًا في السنين الأخيرة. يقول حسن شريف، يجب على الحكام والمؤسسات في الإمارات العربية المتحدة أن تدرك ذلك وأن تعنى بإقامة حضارة جديدة يمكن أن تدعو الحاجة إليها بإلحاح ومن الممكن أن تنمو هنا. يمكن لمثل هذه الحضارة، حسب قوله، أن تنفع الشرق والغرب وتتجاوز الفجوة القائمة بين الطرفين. إنّ شيئًا كهذا سوف يكون في الحقيقة، حسب قوله، فكرًا موجّهًا إلى الأمام. يقول حسن شريف، إذا كان المعنيون يريدون استخدام الفن المعاصر من أجل ذلك، فيجب عليهم أن يمنحوا الفنانين مزيدًا من الحرية وأن لا يكونوا فقط متسامحين مع أساليب الفن الحالية، بل أن يقدّروها ويدعموها. الأمر الذي يشترط بالضرورة مواصلة التطوير والتغيير في فهم فني لا يزال يعتمد بشدة على أسس تقليدية.
تقول إبتسام عبد العزيز محذّرة، لا ينبغي للمتاحف الجديدة أن تصبح أماكن لحفظ أشياء لا يريدها أحد في واقع الأمر. في متحف للفنون تنعكس أيضًا، حسب قولها، صورة بلد على نحو ما، إذ أنّ متحفًا كهذا يقدّم شيئًا عن تاريخ البلد وتطوّره وأبنائه، ولذلك يجب أن يكون مفتوحًا لكافة الأساليب الفنية المختلفة في الإمارات. لا يسعنا إلاّ أن نأمل في أن لا تخيب آمالها في هذا الصدد وأن تكون سياسة متحف غوغنهايم في أبو ظبي أكثر انفتاحًا مما هي عليه في بيلباو. فعلى أيّة حال لقد استغرق الأمر هناك عشرة أعوام حتى تم تكريم فنانين محليين بمعارض.
إنّه لمن المدهش أن المعلومات الواقعية حول المنطقة الثقافية في جزيرة السعديات، والمعروفة حتى لدى الأوساط المهتمة بالفن في الإمارات، قليلة إلى هذا الحد. لكن ذلك يمكن أن يتغيّر قريبًا. إذ أنّ شركة التطوير والاستثمار السياحي كلّفت، مثلما تنامى إلى الأسماع منذ فترة قريبة، مجلسًا ثقافيًا بمواصلة التخطيط وتنفيذ المشاريع الثقافية التي يتبعها من دون شكّ العمل الإعلامي أيضًا. تم في شهر أكتوبر 2007 تعيين نائب مدير من أجل ذلك: شارلز مريوذر، المنسّق ومؤرّخ الفنون المعروف على مستوى عالمي، والذي شغل مناصب منها رئيس بينالي سيدني 2006 (13). يجب عليه في البدء الاهتمام ببناء الأساس الذي يقوم عليه المجلس الثقافي واختيار وتأهيل طاقم العاملين معه. طبعًا هناك مجموعة من المسائل التخطيطية الدقيقة التي يجب شرحها، توجد من بين هذه المسائل أيضًا أسئلة حساسة جدًا، مثلاً ما هي الأعمال الفنية التي من المعقول عرضها في لوفر أبو ظبي لمجتمع مطبوع بطابع إسلامي، من دون إثارة التهم بالرقابة. ينبغي أن تكشف المعارض والفعاليات عن معالمها وبرامجها حتى افتتاح المتاحف. لقد حان الوقت الآن - مثلما يؤكد شارلز مريوذر - رغم الرؤى المستقبلية، من أجل مواجهة الواقع وما يتعلق به من أمور معقدة.
>> المنطقة الثقافية في جزيرة السعديات
حقائق ومعلومات وصور حول كل المعلومات.
هاوبت و بيندر
جيرهارد هاوبت وبات بيندر رئيسا تحرير مجلة الفن نفس وشركاء في نشرها، وينشرا منذ عام 1997 المجلة الإلكترونية عوالم في عالم - عوالم الفن، ويعيشا في برلين - ألمانيا.