قال لي أحد زملائي في شهر تموز/يوليو إن الشوارع لم تكن يوماً حاضراً بهذا القدر للفن المعاصر. قال لي هذا الكلام في وقت كان فيه فريق عمل بينالي اسطنبول الثالث عشر يناقش مسألة ما إذا كان يجدر بهم تنفيذ المشاريع في الخارج. وفي النهاية، وبعد اندلاع تظاهرات ساحة تقسيم العنيفة والدموية المطالبة بساحة عامة في اسطنبول وكانت القيّمة الفنية فليا إردميشي تتساءل منذ البداية كيف يمكن جمع عدة جماهير فيما كان إطار العمل المفهومي يبحث في فكرة "العمومية".
إلا أن البينالي انسحب في نهاية المطاف من الشوارع ليستقر في الداخل يحتل خمسة أماكن، بما في ذلك أنتربو وهو مستودع يقع على الواجهة البحرية وكان يشكل المقر الأساسي للبينالي لعدد من السنوات، ومدرسة غلطة اليونانية الابتدائية، ومنظمتا أرتر وسالت بيوغلو غير الربحيتين؛ بالإضافة إلى مساحة 5533 في المدينة. وذكرت إردميشي أنها لم ترغب في تشريع السلطات التي كانت مسؤولة عن اعتداءات الشرطة في خلال الاحتجاجات. وفي المقابلات الصحافية، أصرت على أنه يجدر بأصوات الشعب أن تسمع. ولكن هذه الحجة لم تقنع الكثيرين.
تم توجيه عدد من الانتقادات التي استهدفت البينالي لتوسّعه إلى مساحتي العرض المملوكتين من القطاع الخاص، سالت وأرتر بسبب صلاتهما بأهم التكتلات التجارية في البلاد. ولكن الانتقادات طالت بشكل خاص قرار العرض في الداخل - ما أدى إلى فقدان الاتصال مع "الخارج". وهذا ما يوحي بأن "العمومية" ما زالت تتم على المستوى الشكلي فحسب.
من لا يزال مقتنعاً بأن الفن والعمومية لا يلتقيان إلا في المناطق الحضرية والمساحات المعمارية؟ هل تعتبر هذه التركيبة ممكنة فقط عندما يرى المارة أعمالاً فنية في الشارع، أو ربما يمكن أن تدفع المشاهد إلى التفكير في مفهوم "العام" بغض النظر عن موقعه؟ بسيط هو مقدار فهمي للعام الذي يفرض الانخراط والمشاركة والامتلاك. وما زلت أتساءل ما إذا كان انتقاد العمل الفني أو المؤسسة الفنية يعني امتلاكه أو امتلاكها. لهذا السبب، من البديهي التفكير في ما غيّرته الاحتجاجات ضد البينالي هذا العام.
لم تتحدث الصحافة عن انتقادات البينالي إلا ابتداءً من العام 2007. فقد وجّه عميد كلية الفنون في إحدى الجامعات الرسمية كتاباً ضد القيّم الفني هو هانرو أشار فيه إلى أن المشروع الكمالي يروّج للنموذج الهرمي من العصرنة في تركيا. فأدان هذا الكتاب هو لسعيه إلى "تخطي الجهل بتعبير متعمد".[1] أما الاحتجاجات العامة على الطبعات اللاحقة من البينالي فصدرت عن خلفيات إيديولوجية مختلفة ولكن أكثر حدة.
عندما أصدرت جمعية "كيف لماذا لمن" بياناً سياسياً شاملاً حول مقاربتها للفن بالاستناد إلى مراجع لبيرتولت بريخت، ووجهت بموجة من الاحتجاجات تظاهرت ضد بداية الرعاية العقدية لمؤسسة كوش هولندينغ التي تعتبر من أضخم المؤسسات الصناعية والمالية في البلاد. بالرغم من مستويات الغضب المختلفة، إلا أن المتظاهرين توافقوا على أساس مشترك: لقد وجدوا أن بيان الجمعية المشحون سياسياً متناقضاً وغير صادق اعتماداً على حجة تقول بأن الهيكليات المالية للبينالات تشكل قيمتها الفنية والسياسية.
ما زالت ردود الفعل ضد مسائل الرعاية مستمرة. ولكنها اتخذت طابعاً مختلفاً هذا العام. في 10 أيار/مايو، أقامت البرامج العامة حدث "الرأسمال العام" في جناح الأعمال في أحد الفنادق الفخمة – علمت لاحقاً بأن الفنانين المشاركين أنفسهم طلبوا هذا الموقع. [2] ونفذت مجموعة من الناشطين تظاهرة صامتة تدل على أن البينالي بات يندرج في إطار مشاكل التطوير المطروحة في المدينة بسبب الرعاية الخاصة.
أخرج المؤدون المشاركون من الموقع بطريقة غير لائقة فيما توجّه القيّم الفني إلى مركز الشرطة ليتقدم بشكوى ضد فنان اتهمه بموجبها بالتضييق الشخصي عليه. فما كان من المحتجين إلا أن أعلنوا عن كتاب تمت صياغته في بداية حزيران/يونيو وحصد عدداً كبيراً من التواقيع بما فيها لـ180 فناناً وقيّماً فنياً وكاتباً ومحترفاً في مجال الفنون من مختلف الخلفيات والأيديولوجيات. [3] فقد أدانوا الموقف السلطوي والمصدر للأحكام والرافض للتواصل الذي تميّز البينالي به اتجاه الأصوات المغايرة. كان يجدر بهذه الاحتجاجات أن تبشر بصحوة لا سيما أن المشهد الفني الأوسع قد رفع صوته ضد المواقف والهيكليات في بينالي اسطنبول كمؤسسة.[4]
في ندوة أقيمت في أواخر أيلول/سبتمبر، علّقت المشاركة في التقييم الفني في البرنامج العام أندريا فيليبس على هذه الحملة الاحتجاجية. [5] فشددت على ضرورة إعادة التفكير في مفهوم الإطار العام عبر فعاليات فنية عالية الجودة تنظّم في كل بينالي معتبرةً أنه لا ضير في ترسيخ الفصل الأساسي بين منتجي الأعمال الفكرية ومتلقيها ومتسائلةً عن كيفية مساهمة المؤسسة الفنية – بغض النظر عن مؤسسيها أو رعاتها – في إنشاء هيكليات يمكن إنهاء الفصل بموجبها كما عن فعالية شكل المعرض الجماعي لحل هذه المشكلة.
على مدى فصل الصيف، أخذت التوقعات تتنامى إزاء قيام إرديمشي بحركة تقييمية جذرية تلبيةً للوضع السائد في تركيا. ولكن هذه التوقعات لم تكن تعنى باختيار الأعمال الفنية وإنما بالقرارات الهيكلية الممكنة التي تتطلب نماذج غير متوقعة. ولعلّه من غير المنصف أن يتم تنفيذ حركة تقييمية من هذا النوع في غضون شهرين وحسب. ومن المؤكد أن تكون أعمال كبيرة متوفرة للعرض لا تتفاعل مع تظاهرات ساحة تقسيم وإنما تدور حولها وتتناولها.[6] وفي ظل كل هذا، يبقى السؤال قائماً: كيف لشكل المعرض الجماعي أن يتلاءم مع نشعر به ونختبره اليوم في اسطنبول؟
يبدو أن إيقاع البينالي ونموذجه لن يتمكنا بعد الآن من مجاراة الحاضر ما لم يتوفر مستوى مختلف من الالتزام مع الجمهور – ولا سيما برمجة تصاعدية (من الأسفل إلى الأعلى) تبقى قائمة حتى بعد انتهاء فعاليات البينالي. [7] الواقع أنه من الصعوبة بمكان تبنّي بينالي اسطنبول إذا ما استمر المنظمون في إقامة معارض جماعية مستقلة تتزامن مع احتجاجات تحتدم في خلال الفعاليات ومن ثم تختفي ما إن تنتهي. مما لا شك فيه أن عواقب التمسّك بالنماذج والمواقف المتبعة قد تلحق أضراراً بالغة بهذه الهيكلية في حين أن بينالي اسطنبول تمكّن من تغيير المشهد الفني في المدينة منذ العام 1987. جلّ ما أتمناه هو أن يبقى سياقه منطقياً.
ملاحظات:
Özge Ersoy
Curator and writer based in Istanbul. She is currently the Project Manager at Collectorspace, Istanbul.
بينالي اسطنبول الثالث عشر
14 أيلول/سبتمبر – 20 تشرين الأول/أكتوبر 2013
العنوان: أمي، هل أنا بربرية
القيّمة الفنية: فوليا اردميشي
المشاركون: 88 فناناً ومعاوناً
كيمياء عامة
برنامج عام، من تنسيق
فوليا اردميشي، وأندريا فيليبس
من تنظيم: