إن البحث في مختلف التحوّلات والطبقات والتقاطعات المتناقضة في خلفية الوضع السياسي المضطرب في آسيا الوسطى في خلال السنوات العشرين الماضية هو من الدوافع الأساسية لعمل إربوسين ميلديبيكوف الفني. ويعتبر التحوّلات (2010) الذي عرض في جناح آسيا الوسطى في بينالي البندقية 2011 من التشكيلات المحتملة لمشروع البحث الطويل الأمد هذا حيث يظهر ميلديبيكوف اهتمامه بتغييرات - أو بالأحرى بتحوّلات - اللغة البصرية التي تتواصل فيها السلطة السياسية مع المواطنين. ويمثل المشروع دراسة شاملة لتحوّل البيئة الحضرية - التماثيل والنصب التذكارية في المقام الأول - المرتبطة بتغيير الأولويات والاتجاهات والمزاجات السياسية أو تغيير الأنظمة السياسية نفسها في آسيا الوسطى. وفقاً لميلديبيكوف، كانت نقطة انطلاق هذا البحث تكمن في وضع معروف نسبياً وتغيير بعض المعالم في حديقة طشقند المركزية. وقد شيّد المبنى الأول الذي يتخذ شكل منحوتة لحاكم تركستان العام كوفمان في القرن العشرين وكان آخرها لتيمورلنك في سنوات الاستقلال الأوزبكي.
تشمل أبحاث ميلديبيكوف ثلاث مقاربات. يمكن وصف المقاربة الأولى بأنها قائمة على التحليل النفسي. فلا يخفى أن اللاوعي ينكشف في زلات القلم وزلات اللسان والإيماءات غير الطوعية. والفنان يصغي إلى اللاوعي ويراقبه في خطاب السلطة - الاقتباسات المتناقضة والمصطلحات المتعارضة وهفوات اللغة البصرية الرسمية. ويتعرّف الفنان صورة السيدة العذراء النابضة والمجسّدة في "الوطن الأم" السوفياتي ومن ثم في "أم أوزبكستان". إلا أن قواعد التماثيل تبقى الأهم – بعد أن تصبح خالية من تماثيل القادة وغيرهم من الشخصيات الهامة على المستوى الإيديولوجي من التاريخ السوفياتي وبعد أن تفقد وظائفها، تحوّلت إلى منحوتات طليعية بامتياز – ومرجعيات مجرّدة.
أما المقاربة الثانية التي لجأ إليها إربوسين ميلديبيكوف فأنثروبولوجية. وكان عالم المصريات الألماني والباحث في الذاكرة الثقافية يان أسمان من أول مَن اقترح فكرة النصب كوسيلة لنقل المحتوى المهم على المستوى الثقافي. فقد شكّل "الخطاب العظيم" المصري القديم الذي بحث فيه "بيئة تجسد الحالة فيها نفسها والنظام الأبدي على حد سواء".[1] ولعل الرغبة في الاتصال، إن لم يكن بالخلود، فعلى الأقل بشيء تاريخي ومستقر يترجَم بعظمة التماثيل، توضح عادةَ البشر المعاصرين التقاط الصور لأنفسهم أمام النصب التذكارية.
دائماً ما تكون هذه الصور نتيجة تقاطع خطين اثنين أو قصتين اثنتين – صغيرة وكبيرة - فيما تمثل الروايات العائلية أو الشخصية الدقيقة في هذه الصور عناصر تكميلية وعرضية بطريقة أو بأخرى في خلفية "التاريخ الأكبر". فيشيخ الناس ويموتون في حين أن النصب التذكارية تبقى كما هي لا يطرأ عليها أي تغيير. ولكنه في الصور الكثيرة التي جمعها إربوسين ميلديبيكوف في مشروعه "ألبوم العائلة" الذي عرض جزء منه في تحوّلات، فإن العكس هو الصحيح باعتبار أن صورة التقطت مؤخراً تتوافق مع صورة قديمة تعود إلى الحقبة السوفياتية. وفي الصورة الأولى، يظهر الأشخاص نفسهم الذين تم تصويرهم في المكان ذاته قبل عقود قليلة، ولكن أمام نصب تذكاري مختلف تماماً. الواقع أن الناس يختبرون تغيّر عدة عهود، يميل كل منها إلى التعبير عن نفسه في النصب التذكاري المكرّس له بعد تطهير الموقع المقدس من عبدة الأسلاف. وبهذا، تنقل الدلالات المرتبطة تقليدياً بتمثيلات الروايات الدقيقة إلى صور روايات كلية والعكس بالعكس. وفي عالم مجرّد من الأبدية، يُكتسب الدوام والاستقرار في النفس أو في أقرب الأقارب والأصدقاء، في حين أن تماثيل الغرانيت والرخام العملاقة لا تشكل أكثر من ديكور ومحيط مؤقت وقابل للإزالة بسهولة.
خلافاً للباحث والعالم التقليدي الذي يقدم نتائجه في نصوص أو كتاب أو مقالة علمية، يبتكر هذا الباحث الفنان صورة. ومن شأن ابتكار الصور أن يمنح البحث الفني وضع الفعل المعرفي الفريد من نوعه وأن يشكل بالتالي المقاربة الثالثة التي يطبّقها إربوسين ميلديبيكوف. فقد درس ميلديبيكوف النحت. وكان خيار القيام بذلك قراراً واعياً بما أنه كان يرغب في نحت "زعيم الثورة العالمية". وبطبيعة الحال، لم يكن يتبع أي اعتبارات أيديولوجية وإنما تجارية بحتة. وليست صور ميلديبيكوف الفريدة – المحوّلات النحتية – سوى تقليد ساخر لفرانك تيلي[2]، اللغة الرسمية التي يتكلمها النحاتون وملخص بصري للبحث بأكمله. ويصف المؤلف هذه المقاربة على النحو التالي: "إنني أنقل بعض المنحوتات الأيديولوجية إلى حقبة ما بعد الحداثة بيديّ، أو أعرّضها لعملية اجتثاث لأيديولوجيتها... لنأخذ مثال تمثال صغير للينين على ذلك - إذا ما امتد أفقياً، يصبح شبيهاً لجنكيز خان وإذا سحق بشكل عمودي، يبدو مثل جياكوميتي. إذا قمنا بزيادة حجم شفتيه، يتحوّل إلى لومومبا - وهذا يذكرنا بأوجه التشابه بأعمال الشغب الإفريقية والقيرغيزستانية. ويكمن المعنى الأساسي والأسلوب الرئيس المستخدم في ابتكار المنحوتات في هذا المشروع في عدم الاستقرار وميوعة الوضع في آسيا الوسطى".
ملاحظات:
Georgy Mamedov
* 1984, curator of the Platform SHTAB (School of Theory and Activism – Bishkek). Lives in Bishkek, Kyrgyzstan.
11 فناناً من كازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان.
القيّمون الفنيون:
بوريس شوخوفيتش
جورجي محمدوف
أوكسانا شاتالوفا
لينغوا فرانكا
جناح آسيا الوسطى
بينالي البندقية الرابع والخمسين
4 حزيران/يونيو – 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2011
Palazzo Malipiero
San Marco
Venice