لا يخفى أن عبد الناصر غارم فنان استثنائي في تاريخ الفن السعودي المعاصر. فلم يجمع أي أحد غيره بين المسيرة في الجيش العربي السعودي والمسيرة الفنية المتخصصة في عروض الأداء والتجهيزات المعدة لمواقع محددة. وإذا كان محترف غارم هو الشارع (أو حيثما يجد فرصة فنية)، فهذا لأنه إنسان يقدّر قيمة الصدف، وهي صفة تقع في صميم ممارسته إلى جانب اهتماماته الاجتماعية والبيئية والسياسية. ومع أحمد ماطر، يشكل غارم أحد نجوم "حافة الجزيرة العربية" ("Edge of Arabia")، وهو أول معرض شامل للفن السعودي المعاصر في لندن افتتح في 15 تشرين الأول/أكتوبر 2008 في غاليري بروناي.
ولد غارم في العام 1973 في خميس مشيط الواقعة بالقرب من أبها. وتلقى دروسه في قرية المفتاحة التشكيلية قبل التحوّل من الرسم إلى الأداء. ومن أول أعماله التي عرضت في بينالي الشارقة في العام 2007، نذكر فلورا وفونا (Flora and Fauna)، هذا المشروع الذي دعمه بعرض أداء أنجزه في أحد شوارع أبها الرئيسية حيث غطى بلفافة بلاستيكية شجرة من فصيلة كورنوكاربوس إريكتوس (Cornocarpus Erectus) احتمى بها طيلة اليوم يعتاش من الأكسجين الذي تنتجه. وبهذا العمل، سعى إلى استكشاف علاقة الإنسان بالبيئة المحيطة به كما دور التكنوقراط في التصميم المدني. وقد استوردت هذه الأشجار المألوفة في أبها من أستراليا. وبالرغم من إنتاجها كميات هائلة من الأكسجين، إلا أنها تلحق أضراراً بالغة بالأشجار المحلية.
هنري هيمينغ: ما هي ردود الفعل التي تمكنت من استقائها لدى عرضك هذا العمل – وقد ذكرت أنها كانت المرة الأولى التي يُقدّم فيها عرض مماثل في أبها؟
عبد الناصر غارم: ظن الناس أنني مجنون. ولكنهم أرادوا معرفة المزيد. بما أنهم منفتحون، راحوا يستفسرون عن الموضوع. وعندما فهموه، أحبوه.
هنري هيمينغ : هل كنت لتنتزع كل أشجار كورنوكاربوس إريكتوس (Cornocarpus Erectus) من أبها لو كنت تملك الصلاحية؟
عبد الناصر غارم: على الفور. لكن المهم هو الدروس التي ينبغي تعلّمها للمستقبل. يتعيّن على مهندسينا ومصممينا إيلاء البيئة مزيداً من الاهتمام. ولا بدّ للتكنولوجيا من أن تتقدّم بشكل أسرع في هذا الصدد. نحتاج إلى تحليل فلسفي للعلاقة القائمة بين التكنولوجيا والطبيعة.
هنري هيمينغ : هل يمكنك تفسير خلفية لوحة الصراط التي ابتكرتها في سهل تهامة (1)؟
عبد الناصر غارم: تستند خلفية هذه اللوحة إلى تاريخ الجسر القائم في هذه المنطقة. في أحد أيام العام 1982، سرى خبر بأن الطوفان سيجرف الوادي. فقرر القرويون الاحتماء على الجسر الإسمنتي. لقد آمنوا بالإسمنت. تجمعوا هناك بمركباتهم ومواشيهم وراحوا ينتظرون. وأتى الطوفان ولكنه جرف الجسر وكل من كان يقف عليه. وبعد مرور عدة أعوام، غطيت بقايا هذا الجسر بكلمة واحدة: الصراط. وقد استغرق إنجاز هذا العمل ثلاثة أيام من الكد مع عدة مساعدين.
في اللغة العربية، تعني الصراط "الدرب" أو "السبيل" بالمعنى الديني للكلمة: إنها تتعلق بالخيارات التي يتخذها الإنسان في الحياة، أكان يتبع الصراط المستقيم أم لا. وقد تدل أيضاً على الجسر الذي يواجهه المرء عندما يموت، هذا الجسر الذي يصل عالمنا بالعالم التالي.
ترك غارم تفاصيل عن موقع هذه اللوحة على موقعه الإلكتروني ويتلقى رسائل دائمة من زوار مهتمين بالفن يتوافدون من الرياض لزيارته. فإذا به يكسب ما يعرف بالعبادة. إنها لوحة مذهلة: فهي الزواج المثالي بين الشكل والسياق الجغرافي؛ بين الفكرة والتنفيذ؛ بين الذاكرة والوقت؛ بين الفن المعاصر العالمي والثقافة السعودية الحاضرة.
وأضاف غارم: "هل تعلم ما كان محور هذه اللوحة؟ الحظ. رأيت هذا الجسر، اطلعت على تاريخه، وارتجلت. إنني أعيد التفكير باستمرار. وهذا مهم جداً بالنسبة إليّ. لا أملك محترفاً. يقع محترفي حيثما أستطيع إيجاد الناس أو أثرهم. وعندما تتسنى لي الفرصة، لا بدّ لي من اقتناصها".
في الحظ والضرورة، اعتبر عالم الكيمياء والبيولوجيا الفرنسي الحائز على جائزة نوبل جاك مونود أنه بالحظ المطلق فقط – أي المصادفة، والأحداث الطارئة، والتصادم الناجم عن التقاء عنصرين غير مترابطين يستفيد أحدهم منه – تتوفر إمكانية "الجدة المطلقة". ويجسّد غارم هذه الإمكانية.
في نطاق أوسع، يمثل غارم ماضي وحاضر ومستقبل الفن المعاصر في المملكة العربية السعودية. وقد بدأ مسيرته بإنتاج لوحات مائية مؤثرة تقنياً ولكنه في الأعوام الثمانية الأخيرة، كيّف تقنيته مع توسّع آفاقه الفنية. والملفت هو الطريقة التي استجاب فيها للتحدي أو التهديد الذي طرحه الفن المعاصر الغربي عليه. وبدلاً من تقليد أكثر أجزائه حداثة، والحلم بمغادرة المملكة العربية السعودية لإنتاج الفن في الخارج، دمج غارم منهجيته ومع الوقت استعمرها. ويبدو العمل الذي ينتجه حالياً متجذراً في سياق هذا الفن (وسياقه هو) الجغرافي والاجتماعي.
بخشيته من أن يفرغ من الأفكار وباعتباره أن هذا لن يحدث له إلا إذا غادر البلاد أو توقف عن التحدث إلى الناس، يمثل عمله تعليقاً والتزاماً فنياً بمحيطه أكثر منه انتقاداً أنانياً.
بالنسبة إلى غارم وغيره من المجددين المؤمنين بأفكار مماثلة، لا يشمل مستقبل الفنان السعودي رجلاًَ معزولاً في محترفه، مستقراً أمام المسند يحمل لوح الألوان، وعلى الأقل مجازياً، يعتمر البيريه بدلاً من العمامة التقليدية. وإنما الفنان إنسان، رجلاً كان أم امرأة، يستطيع تعرّف المصادفات وتكييفها لصالحه. فهو ليس موجوداً للاحتجاج وحسب أو لابتكار الجمال من أجل الجمال. وإنما يفترض به اكتشاف الوديعة الجمالية الكامنة في واقع المسارات التي ينتجها.
ملاحظة:
Henry Hemming
Writer and artist. He has published three books and has exhibited throughout the Middle East and Europe.