يترك عمل فهد بوركي المرء والالتباس يساوره. فإن كانت لوحاته ورسومه ونحوته قوية المفاهيم ومحددة التشكيل ودقيقة التنفيذ، فهي تصر على بث الغموض في النفس. فكثيرًا ما تفتقر صوره، سواء كانت مشاهد سردية أو أيقونات ممدودة، إلى خلفية، فتفتقر إلى إطار ثقافي محدد أو سياق فضائي يساعد على تحديد موقعها، وهكذا تطفو الأعمال في عالم بلا حدود، أو بالأحرى في عالم لا مثالي مراجعه لا أول لها ولا آخر، تخرج عن الزمان والتاريخ. وتعيش الصورُ الأيقونية العتيقة جنبًا إلى جانب رؤى المستقبل بلا كلفة في هذه الأعمال وينبض "خلل - الزمان" بالحياة فيها. ويعتمد الفنان على مصادر تزخر بالتاريخ والجغرافيا والثقافات بما فيها الأساطير والأيقونات المنبثقة من ثقافات الشعوب الأصلية، لاسيما ثقافات الأمريكيين الأصليين، ومطبوعات أوكييو-إه (الطباعة البارزة) والمانغا (القصص المصورة) في اليابان، والتحريك في أوروبا الشرقية، والخيال العلمي، وأطياف أخرى من الثقافة الشعبية المعاصرة. وتتخذ هذه المصادر المختلفة قالب النظريات والمفاهيم ومصطلحات استقيت من علم الإنسان وعلم الآثار، والأساطير والفولكلور، والوجودية والتحليل النفسي. ويستحوذ عليها الفنان استحوذًا، فيبدع صورًا تفوح بقناعة شكلية وإن استعصت على القراءة اليسيرة.
ومنذ 2009، امتاز عمل الفنان بجودة بيانية عالية إذ اتبع بنية واضحة دقيقة من العلامات والرموز. وثمة صورة منفردة - منبسطة وأمامية تطفو على خلفية موحدة - تهيمن على كل إطار. ويتكون كل عمل من أشكال وخطوط هندسية حوافها قاطعة تحاكي الحيادية الباردة في الصورة الرقمية، ولكن ما صنعت تلك الأعمال المتزنة اتزانًا مع بعض التضليل إلا يدويًا. وتشير تلك الأعمال إلى نزعة واضحة نحو التجرد، لا بوصفها غاية شكلية فحسب بل كعملية أو كمنهاج تحليلي قوي ومجرِد لبلوغ صورة ملتبسة عنيدة، أي صورة تسبر تحديدًا قلة المعلومات اللازمة في الصورة لتظل مقروءة. وتلك المنهجية، بدلًا من أن تحد المعنى، تبالغ إلى حد المفارقة من تعسف العلامة. فالتجريد، شكلًا كان أو سميوطيقية، يدفع العلامة إلى ما وراء العلاقة بين مضفي المعنى ومتلقيه، فيجعل المعنى يقبض على اللا ملموس ويتلقاه - أي تلك الأفكار والأمزجة والخبرات التي قد تفوق العقل واللغة والتمثيل. فأل (2009) - هو شكل في صورة مصباح خفيف أسود، له ثلاث فتحات بيضاء تجعل منه وجهًا بدائيًا أو قناعًا من المستقبل، ويشبه أعلاه المطوق نصفُه داخل شكل أسود مستقيمةٌ حوافه، خوذة "دارث فيدر"، وكأنه يقر بذلك في نبوءة عنوانه. وبينما توحي عناوينُ الفنان أحادية الكلمة بالتأويل، - فبالرغم من شدة الالتباس يشبه عمل "فأل" عرافًا أو شامان - إلا أن علاقة الصورة بالعنوان إن وجدت تظل ملتبسة. فيظهر المعنى لا مفردًا محدودًا بل دومًا جمعًا، يقترب إدراك معناه من سلسلة محاولات من التكهن تنبثق من العلامات والفؤول.
ويرى فهد بوركي أن الصورة ليست غاية في ذاتها بل هي دومًا تعبير وتلك الأيقونات تُصَفّي الرواياتِ المعقدةَ إلى صور فردية. ورغم المحاولات الساعية للتخلص من أطلال العمق الوهمية والإيحاءات الروائية كما رأينا في عمل سابق، لاتزال شبهة المرجع الخارجي والمحتوى القابلان للتعرف عليهما قائمين. فيظهر التلميح إلى العنف والجنس، والموت والمتعة، والجسد وما يرتبط به، من خلال لَي الأشكال برقة. وفي الناظر (2010)، تتحول دائرة سوداء تحلق أعلى شكلًا رأسيًا أسود متعدد الجوانب في ساحة أزرقها باهت، إلى جهاز مراقبة محيط ومشؤوم بعد ثَقب فتحة بيضاء صغيرة في المركز تبدو كالعين. أما تهويدة (2010)، ففيها هضبة كالبثور يميل لونها إلى الرمادي فوقها خصلات سوداء رسمت بعناية على السطح المنتفخ، تعلو شوكة طويلة. وتشبه هذه الحفنة الجميلة الشعرَ والحشائش، ويتأرجح هذا الخليط الفكه الذي صنعه فهد بوركي متأرجحًا بين الجسد والمنظر الطبيعي، فيوحي بإمكان ذوبان الاثنين معًا إذ يتحد وجه لوحة تقليدية وأرضيتها مع أناقة غير مصرح بها كليًا لأيقونة مجردة.
وأما عمل الفنان الأخير فيبدو أكثر اعتمادًا على الحدس. وتضفي عليه ألوان النيون وأنماطه صفة هلاوسية كأدوية الهلاوس التي تتردد بين الرؤى الحقيقية والواهية. وفي جرة (2012)، تقبع رأس تتألف من مثلثات مختلفة رمادية الظلال تذكر بمثلثات جزيرة القيامة، في منتصف سفينة سطحها مثلثات متشابكة، كل واحدة منها قوس قزح من النيون خطوطه متوازية. وتُشتت الأشكالُ البيضاوية السوداء المنتشرة على هذا الشكل، النمط الباعث على الهلاوس من فنون الفن البصري. وبينما ينغمس الحبر الشاف لمؤشرات النيون في سطح الصورة، تؤكد الأشكال البيضاوية على انبساط السطح، أما الحواف الحادة وأعالي الرأس فتبتعد قليلًا كالنحت الغائر، وتنشئ تلاعبًا دقيقًا وأنيقًا بين الانبساط والعمق في الشكل والنمط، عبر التركيب. وفي أعمال أخرى، تتألف المخططات - التي تغلب خطوطٌها شكلَها - من مجموعات خطوط بيضاء وملونة محفورة أو مهجورة على أساس أسود عميق. ويشبه شكل عصا الرقص في النجوم في الكوع والقدم (2012) رسوم الجيوغليف الشهيرة المنحوتة في صحراء نازكا في جنوب بيرو، وهي علامات قديمة يُعتقد بأنها تخفي أسرارًا فلكية أو كونية أو أسرار من عوالم أخرى. وفي صلاة من أجل دارة (2012) - يجتمع القديم بالمستقبل، والسحر بالتكنولوجيا، والروح بالعلم، اجتماعًا غير معتاد مجددًا، وتستخدم بنية مخططات الدارة لبناء مسودة للسمو، وإن غابت هوية دافعها : أهو إنساني أم إلهي أم يدفعه كائن من الفضاء؟
ويبدو أن شبح الموت يلازم ممارسة فهد بوركي. فتظهر الأشباح والأطياف، والأطلال والعظام، والمراسم الجنائزية وطقوس الحداد في أعماله. بل أن الفنان استوحى عمله اشتعال 1 و2 (2009) وهو عمل شديد التجريدية، استوحاه من اهتمامه بممارسات حرق جثث الموتى. [1] ويشير هذا العمل إلى ثلاثة جزئيات دون الذرية أو أجسام سماوية على شفا الاصطدام، يوحي بحركتها تلطيخُ الحافة الخارجية لكل دائرة سوداء. وتتكون هذه الدائرة من مجموعة من سبع أطباق سوداء - يصغر حجمها من أسفل إلى أعلى، فيبدو وكأنها تتضاءل في الصورة الكبيرة -، ويوحي تلطيخ قمة كل أسطوانة بدخان أو حرارة ترتفع من جمرة خامدة. ويستفيد فهد بوركي كل الاستفادة من الفحم الملطخ ليصبغ تلك الأشكال السوداء المتناهية الصغر - الرامزة إلى النفي والفناء - بأقل قدر من الحياة. [2] ويرى الفنان أن النزوع نحو السمو عن الموت عبر تخيل إعادة ميلاد أو حياة بعد الموت، هو محفز كوني وأساسي لبناء أساطير وأيقونات زاخرة يستقي منها وإليها يُستقى. [3] وإن كان الحزن يعزل جُل أعمله، فلا يعود ذلك إلى الحداد على الموت فحسب بل إلى الحسرة على فقدان العلاقة بالحكمة القديمة، وهي قطعية صنعتها الحداثة. وعوضًا عن ذلك تقر أيقونات فهد بوركي المبهمة والمنفصلة أبدًا بقوة وقدرة الروحانيات والمقدسات في الأساطير والغموض والسحر. فتجعل أعماله الأساطير مستقبلًا، ويلجأ إلى صور للماضي ومن الماضي ليتخيل أو يتنبأ أو بالأحرى يتكهن ما هو آت.
ملاحظات:
مرتضى والي
كاتب ومؤرخ فني وقيم. يقيم في الشارقة في الإمارات العربية المتحدة، وفي بروكلين في الولايات المتحدة.
عرض فيما قبل في:
غراي نويز
الوحدة 24، شارع السركال
شارع 8، القوز 1
مخرج 43 SZR، دبي
الإمارات العربية المتحدة
17 مارس/آذار - 30 أبريل/نيسان 2014
حصل فهد بوركي على جائزة جون جونز للفن على الورق في 2013
فهد بوركي
23 آيار/مايو - 14 أيلول/سبتمبر 2014
غرفة المشروع