في 14 أيلول/سبتمبر 2011، سار أربعة عشر طالباً في مبنى يقع في الناحية الشرقية من بيروت ليجدوا مساحة تتجاوز 2000 متر مربع من مصنع سابق أعيد تأهيلها ليتمكنوا من التعاون في إطارها في الأشهر الأحد عشر القادمة. وقد وقع نظرهم على مكتبة (ما زال العمل جارياً عليها)، وقاعة للمطالعة، وجناح للتحرير، وما يعرف بـ"ملاذ" الرسم والنحت، وقاعات دراسية، وقاعات اجتماعات، وقاعات مشاهدة، ومكاتب إدارية ما زالت غير مرتّبة في موقع كان الأثاث يصنّع فيه منذ عقود. والمساحة الشاسعة التي اتضح أنها عبارة عن استديو كانت كافية لإجراء حلقات واسعة بدراجة هوائية، ما قام به الطلاب فوراً. وكانت منحوتة ضخمة للفنان مروان رشماوي مصنوعة من أنابيب معدنية ومتبقية من معرض أقيم قبل ثمانية عشر شهراً تنتقل من أحد أطراف الغرفة إلى آخر كأنها حافز لفكرة لم تنضج بعد.
إن الطلاب جميعهم فنانون، يعرض عدد كبير منهم أعماله منذ عدة سنوات. جاء معظمهم من الخارج – من مصر وفلسطين والأردن وإيطاليا وفرنسا والولايات المتحدة - ولكنه في الأيام التي سبقت الافتتاح الرسمي للفضاء، لم يكن لأي منهم، ولا حتى أولئك الذين عاشوا كل حياتهم في لبنان، أدنى فكرة عما كانوا سيشاركون فيه. فكانوا - وما زالوا – حقل تجارب لأول صف يندرج في إطار برنامج فضاء أشغال داخلية لأشكال ألوان، بما يمثله من تجربة مجانية لا تمنح أي شهادة في مجال الفنون وإنما تشكل حاضنة للأفكار وأرشيفاً حياً ومركزاً للبحث وصندوقاً لدعم الإنتاج على حد سواء. مع أن هذا البرنامج ليس ببرنامج إقامة أو متحف للفنون الجميلة، إلا أنه تربوي الطابع بشكل أساسي يساوي بين الدراسات والعمل التطبيقي في الاستديو. ويشدد الجميع على أن الطلاب المشار إليهم في معظم الأحيان بالمشاركين ليسوا وحدهم حقل التجارب بل الموظفون والمانحون والمستشارون والأساتذة الزوار والمقيمون أيضاً هذا العام.
بدأت أشكال وألوان المعروفة رسمياً باسم الجمعية اللبنانية للفنون التشكيلية نشاطها في العام 1994 من دون أن يكون لها أي مكتب. في البداية، كانت هذه المؤسسة التي لا تبتغي الربح – وقام بتأسيسها كل من كريستين طعمة ومروان رشماوي ورانيا طبارة ومصطفى (زيكو) يمّوت وليلى مروة – تعنى بالدرجة الأولى باستقدام الأعمال الفنية المعاصرة إلى مساحات بيروت العامة. فأقامت المشاريع في الصنائع وحدائق السيوفي وعلى الكورنيش وفي شارع الحمرا في وقت كانت فيه النقاشات حول إعادة إعمار المدينة بعد الحرب محتدمة وظلت مفتوحة نسبياً - قبل أن تحوّلت إزالة وسط المدينة التي تولتها شركة سوليدير العقارية الخاصة إلى حقيقة محزنة وثابتة.
في العام 2002، نظمت أشكال ألوان الطبعة الأولى من منتدى أشغال داخلية حول الممارسات الثقافية الذي ساهم في تشريع أبواب مشهد الفن المعاصر في بيروت على العالم. وقد أشارت مديرة أشكال ألوان كريستين طعمة في إحدى مقالاتها إلى أن اللبنانيين يقومون منذ عدة عقود بترجمة كتب الغرب التي يرونها مناسبة إلى اللغة العربية مضيفةً: "لم نقرأ سوى تلك التي تؤيد قضايانا". في الواقع، كان المنتدى تعبيراً عن الامتنان للمثقفين المبعدين الذين قضوا على هذا النوع من الافتراضات والانقسامات، ودعوة لهم ليأتوا ويقدّموا أعمالهم ويناقشوا أفكارهم ويساهموا في تحديد "الأسئلة التي يجب طرحها".
عندما أقيمت الطبعة الخامسة من منتدى أشغال داخلية في نيسان/أبريل 2010، كانت أشكال ألوان قد اتخذت مكتباً صغيراً لها ومن ثم انتقلت إلى مكتب أكبر. وقد نجت من كل أنواع الاضطرابات الإقليمية، ابتداء من اندلاع الانتفاضة الثانية في فلسطين والغزو الأمريكي للعراق وصولاً إلى اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري وكل ما طرأ من أحداث بعده. وكانت السيدة طعمة في تلك المرحلة على بعد عامين من التخطيط لكيان أكثر ديمومة - مدرسة - لا يدل فقط على أن أشكال ألوان قد نضجت حتى أصبحت مؤسسة حية ومرنة (تحظى بمجلس أمناء، ومجلس مستشارين للمناهج الدراسية، وموظفين، وفريق فني)، ولكن أيضاً على أنها قامت بتحوّل حاسم من الفضاء الحضري إلى الفضاء المدني.
يعتبر برنامج فضاء أشغال داخلية اختباراً في نواح كثيرة. فقد تجرّأ على ولوج ثغرة الدول الفاشلة والأنظمة التعليمية الفاشلة والخدمات العامة الفاشلة وإفلاس إيديولوجيات منهكة أبداً منذ فترة طويلة. وفي زمن بات فيه تأمين تأشيرة دخول لطالب وافد من أوروبا أسهل من تأمينها لطالب وافد من مصر (وبالرغم من وحدة الخطاب في العالم العربي إزاء القضية الفلسطينية، ما زال تأمين تأشيرة لطالب وافد من فلسطين مستحيلاً)، هل يمكن للمدرسة أن تشكل مركزاً للتعلّم والتفكير النقدي يخدم بيروت والعالم العربي في هذا النظام؟ هل يمكنها أن تصبح مختبراً ليس للابتكارات في ممارسة الفن المعاصر فقط، بل أيضاً لتجارب أكثر أهمية في المواطنة والالتزام المدني؟ هل تستطيع أن تنجح في تعبئة المجتمع ليدعمها على المدى الطويل؟
منذ بضع سنوات، بناء على طلب من الفنان طوني شكر، شاركت كريستين طعمة في محاضرة في الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة كان من أبرز المتكلّمين فيها المهندس المعماري يوسف طعمة (لا قرابة بينهما). وقد حرصت السيدة طعمة على التعبير عن إعجابها بما سمعته ورأته في خلال هذه المحاضرة. وبعد أن حصلت على إيجار مجاني لأرضية المصنع (هبة من جمعية فيليب جبر)، طلبت من المهندس طعمة ما إذا كان يرغب في تجديد المساحة. في البداية، رفض طلبها قائلاً إنه لم يقم بهندسة داخلية يوماً. ولكن كريستين ثابرت على طلبها هذا حتى قبل السيد يوسف ونفّذ عمله مجاناً. فراحت الأسئلة تتعالى من زوايا المكان وتطرح نفسها عليه: ماذا سيحدث في هذا الفضاء؟ ماذا سيفعل الطلاب فيه؟ لماذا قد يستخدمونه؟ وظلّت هذه الأسئلة تتأرجح في ذهن يوسف على مدى سنتين فيما يعمل على تصميم ما يظهر الآن على أنه تدخّل هندسي مختزل، في حين أنه يندرج في إطار الإصلاح الشامل الملفت الذي نجح في استحداث بيئة نموذجية للغاية حيث يبدو أنه تم تضخيم كل تفصيل لمضاعفة إمكانيات الطلاب وربط الفضاء بالشارع والمدينة المترامية بعده.
تم قديم أكثر من 200 طلب للصف الأول. وقد وضعت إميلي جاسر التي كانت أول أستاذ مقيم منهجها الدراسي على أساس اقتراحات الطلاب الأربعة عشر الذين وقع الاختيار عليهم. ويركز برنامجها على الكلمات والمراحل الأساسية: التمرد، والثورة، وموروثات ما بعد الاستعمار، ومواقع الصدمة، والتاريخ المكبوت، والسحرة، والشعراء المتجولين، واستراتيجيات المعارضة. وقد خاض الشهر الأول غمار نسيج بيروت نفسها، مع ورش عمل لفنانين ومهندسين معماريين وقيّمين فنّيين محليين، من بينهم أكرم زعتري، ورامي ضاهر، وميران أرسانيوس. وقدّم الباحث السنمائي كامران رستگار ندوة امتدت على ستة أسابيع حول السينما في فترة ما بعد الاستعمار تلتها ورش عمل مع الفنانين ألفريدو جار وويلي دوهرتي. ومن شأن ست دورات إضافية - مع هيتو ستييرل، وحسن خان، ولينا صانع، من بين غيرهم – أن تقود الطلاب إلى نهاية العام حينما يفترض بهم أن يعرضوا المشاريع التي كانوا يعملون عليها طيلة الوقت على الجمهور مع دليل ومعرض مفتوح على غرار الاستوديو يقام في تموز/يوليو.
تقوم الفكرة الأساسية على أن يعمد أستاذ مقيم في كل مرة إلى إعداد منهج دراسي جديد يتبعه حوالى خمسة عشر طالباً. ولا بدّ من الإشارة في هذا الصدد إلى غياب الحصص الجغرافية مع التركيز على الفنانين الوافدين من العالم العربي. كذلك، ما من قيود تفرض على مستوى المجالات لأن البرنامج مفتوح ليستقبل من يعملون في ميدان الفنون المرئية والأدائية كما السينمائيين والنقاد والقيّمين الفنيين وغيرهم. ويتوفر تمويل إضافي إما لتقديم السكن أو بدل للسكن للطلاب القادمين إلى لبنان من الخارج. وبما أن المدرسة تعتبر جديدة حتى الآن، فإن المسار المتبع ما زال قيد التجربة. وخلافاً للسيدة جاسر، على سبيل المثال، وضع الأستاذ المقيم المرتقب للعام 2012 - 2013 ماتياس ليلينتال (الذي يأتي من خلفية مسرحية وتعاون مع كريستوف شلينغنشييف) منهجه الدراسي – الذي يتضمّن وحدات حول الأشكال المبتكرة والعلاقات الحميمة واستراق النظر، وشكل المحاضرة - الأداء، والفن والتكنولوجيا - قبل أن يتعرّف إلى طلابه (يرى أنه يجدر بالمرشحين أن يقبلوا بتحدي الاستجابة لمواضيعه).
منذ حوالى سنتين، في خلال الطبعة الخامسة من منتدى أشغال داخلية، قام المؤرخ أندرو روس بمحاضرة في بيروت عالجت ظاهرة معرض غوغنهايم في أبو ظبي ظاهرياً رابطاً إياها ضمنياً بالتعليم الذي كان يندرج ضمن المواضيع الدقيقة والكثيرة المطروحة آنذاك. وقد رأى في هذا السياق أن "إدارة مدارس الفن أكثر صعوبة من إدارة المتاحف. فهي ليست مدرجة على الخرائط السياحية. ولا يستقطب المفكرون الأحرار الذين يرتدون ملابس رثة البيع"، مضيفاً أنه "لا يمكن التنبؤ بالنتائج الناجمة عن المسعى التعليمي وقد تتخذ صفة التمردية". وهذا لا ينطبق على الخليج خلافاً لبرنامج فضاء أشغال داخلية الذي سيرحب بمبادرات مماثلة حتماً.
كايلين ويلسون – غولدي
كاتبة مقيمة في بيروت. تساهم في تحرير مجلة بدون وتكتب بانتظام في زي دايلي ستار وآرت فورم وفريز.