وجدت نفسي أبحث في مستقبل حرفة حفرالخشب التقليدي والفنون المحلية وأنا جالس في شرفة منزل نيك رشيدي، حافر الخشب، في المحلة الصغيرة "بانتاي كاهايا بولان" في ولاية كلنتان شمال ماليزيا. نيك رشيدي وأخوه الأكبر نيك رشيدين – الذي رحل عن هذا العالم للأسف – هما حافرا خشب من المدرسة القديمة. عملهما المتميز يشهد لهما اليوم بأنه الأفضل في حرفة حفر الخشب الماليزي التقليدي وبعض من أعمالهما قدمت هدايا على مستوى الدولة لشخصيات رسمية من هيئات أجنبية تتراوح من رئيس الولايات المتحدة الأمريكية لإمبراطور اليابان. بالرغم من ذلك فهنا، في القرية الصغية حيث يسكن، يبدو نيك رشيدي للناظرين شخصية متواضعة تكاد تكون فقيرة بمعايير النخبة من الشخصيات السياسية ورجال الأعمال الذين يسكنون في كوالا لمبورعاصمة ماليزيا.
خلف هيئة نيك رشيدي البسيطة هناك شخصية رقيقة وعميقة الإحساس والتفهم بشكل يليق حقا بفنان. مثل أخيه نيك رشيدين تدفعه رغبة قوية نحو الحفاظ على ودعم وإعادة إحياء شكل من أشكال الفنون التي تكاد تنقرض. مثل أخيه، هو قلق من قوى التحديث السريعة وكذلك من درجة التحفظ والتزمت الديني المتزايدة التي تعمل على تحطيم نسيج الماضي والمجتمع المحيط. بكلماته قال: "السياسون والقادة الدينيون يتحدثون باستمرارعن أهمية أن نصبح معاصرين وأن نكون مسلمين أفضل. ولكن في الغالب كل ما يريدونه هو تحطيم كل ما هو قديم وتقليدي ومحو الماضي. كيف نتقدم نحو المستقبل إذا لم نتذكر ما كناه من قبل؟ وكيف نكون مسلمين أفضل إذا لم نعرف أسلافنا من العهد قبل الإسلام؟"
قلق نيك رشيدي واقعي جدا فهنا في ولاية كلنتان حزب المعارضة الإسلامي هو الحزب في السلطة، منذ تسلم الحكم في 1990 قامت حملة لمنع كل أشكال الفن والثقافة والترفيه على أنها "غير إسلامية" و"غير أخلاقية." لم يقتصر هذا المنع على أشكال الثقافة الشعبية الحديثة كمسيقى البوب الغربية فحسب بل طال أشكال الفن التقليدية من العهد قبل الإسلام. بالنتيجة أصبحت أشكال الممارسات الثقافية التقليدية كمسرح خيالات الدمى وراقصي الماك يونغ ومانورا وغيرها من سبل تمضية الوقت التقليدية كتطيير طائرات الورق، أصبحت جميعها مختصرة جدا إن لم تتوقف في المطلق. نيك قلق من تأثير كل هذا على حرفته في حفر الخشب التي تعتمد على الرموز والأشكال التقليدية ذات المعاني والتأثيرات الهندوسية والبوذية. هو في الحقيقة يصارع في صلب الحرب الأيديولوجية من أجل مستقبل الهوية الماليزية.
أمّة تبحث عن هوية
ماليزيا، كغيرها من مجتمعات ما بعد الإنتداب في أواخر القرن العشرين، تمر حاليا في أزمة شمولية لتحديد الهوية. الهيئة السياسية المعروفة بفدرالية ماليزيا اليوم ولدت في مراحل: في 1957 تكونت ماليزيا المستقلة وفي 1963 امتدت الفيدرالية لتشمل سنغافورة وولايات بورنيو الشمالية سباه وساراواك. (انسحبت سنغافورة من الفدرالية في 1965).
ماليزيا المستقلة، كما أصبحت تعرف، غدت تبحث عن مفهومها الخاص لهوية لها منذ البداية. لقرون كانت هذه الساحة محلا للعديد من المجتمعات العرقية والثقافية والدينية المختلفة. من الغرب جاءت أمواج متلاحقة من الثقافة الهندية، التي ساهمت في تهنيد الجزر المليزية،كذلك نهوض العديد من الممالك الهندوماليزية والبوذية المهمة كالمجابهيت والمتارام والسريفيجايا. من الشرق جاءت تأثيرات من الصين والتي جلبت معها الطرق والأشكال المعيشية الصينية التي مع مرور الوقت اختلطت بالعادات والأذواق المحلية. التأثيرات الهندية (هندوسية وبوذية) والصينية (البوذية والطاوية والكونفوشيوسية) الثقافية واضحة المعالم في الفن والثقافة والعمارة الماليزية حتى القرن التاسع عشر – إلا أن ملامح التأثيرات الهندية والصينية خاضعة للمحو المتعمد والمستمر اليوم.
في الجزر الماليزية نفسها كان تحرك مختلف الناس – واللغات والثقافات وأشكال الملابس والسلوك والحياة التي أتوا بها- هوالأمر العادي لأكثر من ألفي سنة. تكاد تكون كل الممالك البحرية في جنوب شرق آسيا ممالك متحركة وعاملة في البحر ومتنقلة بطبيعتها وتعتمد على التجارة والتواصل مع العالم الخارجي لاستمراريتها.
هذه العملية من تبادل واختلاط ثقافي فاستعارة وتطبع استمرت حتى أوائل القرن السادس عشر حتى أنهى وصول الفاتحين البرتغاليين والإسبان هذه الحياة المعتمدة اقتصاديا على البحر في المنطقة وقدموا المبادئ الحديثة في تشكيل الدولة القومية، والمناطق السياسية والحدود. كما حملت معها الأمواج المتتالية من الإستعمار الحديث أشكال أخرى للحكم وعرّفت بأفكار كالإختلافات العرقية.
تأثير الحداثة: العرق والسياسة
خلّفت الحقبة الإستعمارية وراءها آثارا أبدية على مستوى عقلية عامة جديدة بأساسها حديثة: أفكار مثل الدولة القومية والحدود والدولة ذات السيادة والهويات العرقية وهي أفكار قدمت لعالم كان يخلو منها. تطور سياسات الدولة الماليزية الحديثة عكس هذه الإهتمامات وبالذات في السياسات المتعلقة بالعرق والهويات العرقية.
حين تكونت ماليزيا في 1957 (وتم تكوينها في 1963) أصبح السؤال المحوري بالنسبة لمشروع بناء الدولة القومية هو ما هي الأسس لهوية ماليزيا؟ سيطرة المجتمع الماليزي-الإسلامي في الدولة عنى أن تتشكل الهوية الماليزية وتتحدد اعتمادا على منظورماليزي بحت للعالم. في نفس الوقت فإن هذا الفهم الحديث لما هو ماليزي هو فهم عرقي وذو حدود واضحة ومطلقة وحصرية. الدولة الماليزية الما بعد استعمارية ونخبتها لم تكن ميالة لتقبل والإحتفاء بالماضي المتعدد الثقافة في الدولة بسبب سياسة الدولة الماليزية العرقية.
منذ سبعينات القرن الماضي وما بعد انجرفت ماليزيا مع أمواج تيارات الإسلام السياسي التي أطلقت لها الثورة الإيرانية العنان في 1979 وكذلك إعادة تعريف باكستان لنفسها كدولة إسلامية في نفس السنة. نهوض الإسلام السياسي في ماليزيا دعم تضييق الهوية الماليزية في النطاق الإسلامي-الثقافي. بدأت جماعات جديدة أكثر تحفظا وأعلى صوتا تدعو لأسلمة المجتمع الماليزي وبالمواكبة رفض ماضي الدولة الما قبل إسلامي.
إذا الهوية الثقافية الماليزية ما زالت تحدد أكثر فأكثر بشروط فهم الهوية الماليزية الضيق والمتزمت والمغلق والحصري. إذا استمرت هذه الظرف على ما هي عليه فستقلل من وتمحض الميراث الثقافي المشترك لماليزيا وأهلها، الذين تعكس ثقافاتهم الفنية والحرفية التقليدية تاريخهم المشترك عندما كان الإسلام والهندوسية والبوذية قادرين على التعايش المشترك.
عودة إلى منزل نيك رشيدي، نبحث في مستقبل حرفة حفرالخشب في زمن الإحياء الديني والإستهلاك العنيف. نيك يرثي حال الماليزيين الذين لايقدرون فنونهم وثقافتهم التقليدية: "نتحدث عن قيمنا الآسيوية وفخرنا بماضينا لكن أين هذا التقدير وأين انعكاساته؟ رجال الأعمال والنخبة في المدن يشترون أعمالنا في حفر الخشب لتزيين قصورهم وشققهم وفي المقابل ينعت القادة الإسلاميين أعمالنا النحتية بأنها غير إسلامية لأنها تمثل آلهة هندوسية، وأشكال معبودة وأرواح من الطبيعة. لكن أعمالنا النحتية هي صلتنا الوحيدة مع الماضي، ومع الطبيعة من حولنا والأشياء الحيةالتي تغذي فنوننا بالحياة: هذا فنّنا الماليزي لأنه نابع من الأرض ويتنفس تاريخ ناسنا. إذا قطعنا الحبال التي تربطنا بأسلافنا فسنكون كالسفينة من غير بوصلة؛ شعبا بلا تاريخ."
Farish A. Noor
Malaysian political scientist and social activist. Studied the dynamics of politics, arts and culture in Southeast Asia and is a specialist of Islamist political movements in the region. Author of 'The Other Malaysia: Writings on Malaysia's Subaltern History' (2002) and 'The Spirit of Wood in Malay Woodcarving' (2004). He is also a radio essayist for the BBC World Service.
كل الصورالفوتوغرافية
من الكتاب:
روح الخشب – فن حفر الخشب الماليزي،
فارش نور وإدي خو، الصور: ديفيد لوك