علي صاحب العينين الزرقاوين
أحد الأحفاد الكثر،
سيغادر الجزائر،
على مراكب تشق عباب البحر.
سيكون برفقة آلاف الرجال
بأجسادهم الصغيرة
وعيون كلاب الآباء
المطلقة في ممالك الجوع.
من هذه النبوءة لبيار باولو بازوليني، اختير عنوان التجهيز الذي أعدّه جان ماريا توزاتي (٭ 1980 في روما، إيطاليا) "ممالك الجوع"، وهو عمل من أكثر من 200 عمل تعرض في ميديتيرانيا 16 الذي يمثل بينالي الفنانين الشباب ويقام في حاجز أمواج فانفيتيليانا الساحرة في أنكونا بمناسبة الذكرى 2400 لتأسيس المدينة.
تبرز بعض الأسنان من الأرضية الإسمنتية التي صنعها توساتي وكأنها صخور في البحر. وهي البقايا الوحيدة على حياة من يرحلون عن وطنهم أملاً في حياة أفضل في الانب الآخر من الدنيا. وفي المساحة الفارغة، أقيم تجهيز "صوت المخفيين" للفنان اللبناني شربل صموئيل عون (*من مواليد العام 1980 في بيروت، لبنان) والمؤلف من هواتف قديمة بأشكال مختلفة: كل هاتف ينشر الصوت المسجَّل لأشخاص التقاهم الفنان في خلال رحلاته عبر حوض البحر الأبيض المتوسط ويخبرون بلغات مختلفة عن الأوقات العصيبة التي شهدوها في حياتهم.
للمفارقة أنه بإزالة عنصر الرؤية، يظهر كل من الفنانين قصص المهاجرين، وكلمات المنبوذين، ودروب الجياع. وبهذه الطريقة، يمنحان شكلاً محدداً لتجربتهما الفنية الخاصة لا كصورة ثابتة، وإنما كفضاء مشرّع على الأسفار، فيرسمان خطوطاً تتقاطع وتتشابك فيها خرائط التمثيل المرئي الكلاسيكية.
هذه هي الصورة المتحرّكة للبحر الأبيض المتوسط وفي الوقت نفسه لميديتيرينيا 16 المكرّس منذ العام 1985 ليحمل لواء الترحال ويسلّط الضوء على تقاطع الثقافات التي تواجه هذا البحر الجامع والمقسّم في آن معاً.
هذا ما يذكّرنا به عرض أداء فرجينيا زانيتي (*من مواليد العام 1981 في فيسولي، إيطاليا) "المشي على الماء": المشي على صخرة "ترافي" قبالة سواحل أنكونا، بما تشكله من تكوين جيولوجي ناجم عن لقاء صدعَيْن يمتدان لنحو ميل، يخرج جزء منهما من الماء. وتقول الأسطورة إنه ما إن امتدت ترافي إلى الجانب الآخر من البحر الأدرياتيكي، باعتبارها رمزاً للأخوة، حتى أخذ غضب العناصر يدمّرها ليعطيها شكل الجسر المنهار. لذا، تبحث زانيتي في مفهومي المعجزة واليوتوبيا اللذين يصعب تحقيقهما أو بلوغهما لبعدهما عن قواعد المنطق الشائعة؛ ولكنها تحوّل التجربة المباشرة للبحر الأبيض المتوسط باعتباره معبراً وحاجزاً وحداً في الوقت نفسه.
إذا كنت تعيش على الجانب الخطأ ولا تحصل على تأشيرة، قد تواجه عقبة تحول دون حرية تنقلك وتعاونك الفني في هذه المنطقة من العالم. هذا ما حلّ بفرقة الرقص المعاصرة سرية رام الله النشطة منذ العام 2005: فهي من لم تتمكن من القيام بأي عرض في خلال أيام الافتتاح لأن إحدى الراقصات منعت من الخروج من بلادها. وفي هذه الحالة أيضاً، يشكل احتجاب العرض رفضاً لآثار التصنيع والاستعمار على البشر والبيئة المحيطة بهم، علماً بأن ما يحاول الراقصون القيام به، من خلال التنظيم الذاتي ومعرفة النفس، هو العثور على استراتيجية من أجل الخروج من هذا "الجنون الاعتيادي" في السائد في هذا العصر وبناء وضع أدائي حر في فلسطين. يسعون إلى إقامة مملكة للفن من هياكل المجتمع.
هم الذين لم يرغبوا في المعرفة، هم الذين كانت عيونهم متسوّلة،
هم الذين عاشوا مثل القتلة تحت الأرض، هم الذين عاشوا مثل قطاع الطرق
تحت سطح البحر، هم الذين عاشوا كالمجانين في السماء،
هم الذين بنوا
قوانين خارج القانون،
هم الذين عرفوا كيف يتأقلمون
مع عالم هو تحت العالم.
هكذا تكلم بازوليني مرة أخرى في العام 1965 حول المهاجرين، وهكذا يمكن تعريف الفنانين والقيمين على ميديتيرينيا 16. من خلال بناء مملكة على الأنقاض، يستعيدون المعنى القديم للبحر الأبيض المتوسط: باعتباره حوضاً يحتضن، ونقطة لقاء، وبحراً مياهه عابرة للحدود ولا تخضع لولاية أي دولة. يمكن تلخيص عملهم بلفتة رندا مداح (*من مواليد العام 1983 في مجدل شمس، سوريا): في الفيديو الذي أعدته "أفق خفيف"، ترتب ممثلة بدقة غرفة منزل دمر في قرية عين فيت في الجولان السوري بهدف خلق الألفة في خضم المأساة والدمار.
يشبه حاجز أمواج فانفيتيليانا ما يوصف في هذه الأعمال: هو مملكة فن على وجه التحديد، بل منطقة حرة حيث كل شيء مسموح به، حتى الأخطاء، هو "منظر طبيعي ثالث" بحسب أسماء الأقسام الأحد عشر المستوحاة من جيل كليمان ومفهومه الذي يقول بأن الأراضي المهجورة وغير المزروعة والبعيدة عن استغلال العمّل وفرض السلطة، تضمن الثروة الأكثر إنتاجية والتنوع البيولوجي.
في البداية، كان "حاجز الأمواج" مستشفى للأمراض المعدية صممه المهندس المعماري لويجي فانفيتيلي في القرن الثامن عشر على جزيرة اصطناعية في ميناء أنكونا. وإذا كان يستخدَم في الوقت الحاضر للمعارض المؤقتة، فقد كانت لهندسته المعمارية المحصنة وظائف مختلفة في الماضي: مكان للحجر، ومستودع، ونظام للحماية من الأمواج، وفي خلال الحربين العالميتين، معقل عسكري. واليوم، أصبح تقريباً رمزاً للبينالي. ولعل ابتعاده عن وسط المدينة، معزولاً ولكن مرتبطاً في الوقت نفسه بالبر الرئيس بفضل ثلاثة جسور، يجسّد نوعاً ما المبادئ التي وجهت القيّمين الثمانية في اختيار الأعمال المعروضة: من موقع على حافة المؤسسات، تحاول هذه الأعمال أن تستحدث تجربة جمالية كما رؤية نقدية وفناً لا يحيل إلى ذاته ولكنه يتصل بالمسائل السياسية والثقافية والاجتماعية الحالية ويجد في الخطأ وسيلة جديدة للنقل.
يبدو وكأنه صدفة غريبة أن يتم تنظيم هذا البينالي في أنكونا في خلال استقالة الحكومة المحلية، ثم في ظل تعليق القوانين من جهة، وأن يقام داخل مستشفى سابق للأمراض المعدية الذي يذكر بمدى معارضة المرض المناقض لفكرة الجسد المثالي والصحي المنصوص عليها في المجتمع، للقاعدة السائدة. كما قال أنتونين أرتو، يمثل الطاعون نموذجاً للفن الذي ينبغي تأمين تواصله بالعدوى، على المستويين الأفقي والعرضي، وليس عن طريق الفرض.[3]
من شأن العمل الوثائقي "جدران عربية" الذي أعدّته الفنانة التي تعلّمت الفن وحدها رنا جربوع (*من مواليد العام 1982 في المملكة العربية السعودية) وتنشر أعمالها عبر دول العالم الإسلامي كافة ولا سيما الغرافيتي المصورة أن يشير إلى بعد هام من البينالي: استخدام البحوث، وبناء المعرفة الذاتية خارج النظم التقليدية وعبر قنوات أكثر مباشرة ودينامية للنفاذ إلى المعلومات، وأخيراً، إيصال هذه المعارف من خلال أجهزة المشاركة غير الرسمية، كمنصات للتبادل والمناقشة. ومن الأمثلة الوجيهة التي تبلور هذه الفكرة هي "برنامج البحث الدائم لقياس انتفاء الموضوعية"، وهو دراسة استقصائية حول العلاقة بين الإنسان والمكان أشرف عليها سيمون فرنجي، واليساندرو دي بييترو وبيترو سبوتو تستند إلى طاولات مستديرة منتظمة حيث يستطيع الجميع مناقشة ممارساته الفنية بحرية عبر إثرائها بمساهمات جماعية جديدة.
كل هذا يكشف عن انتقاد الطرائق التقليدية في التعليم، وأنظمة المعرفة المقولبة: لهذا السبب، قد يمثل التعلّم الذاتي شكلاً من أشكال المقاومة. ويبدو أن صرخة احتجاج ترتفع من كل الأعمال المعروضة في البينالي وهذا واضح جداً في الفيديو الوثائقي الصادر عن منطقة البلقان: على سبيل المثال، "الحصار" الذي أعدّه إيغور بيزينوفيتش (*من مواليد العام 1983 في رييكا، سلوفينيا) حول احتلال الجامعة في زغرب في العام 2009 ضد الاستغلال التجاري للتعليم. وتحاول مجموعة مريزا سوليدارنوستي الناشطة منذ العام 2012 في سبليت في معارضها ونشاطاتها العامة ونقاشاتها المفتوحة، تعزيز الجمهور الأوسع بالوصول إلى عمال لا حول لهم ولا قوة في المصانع الكرواتية المضطربة في سعي إلى كسر الرقابة الإعلامية.
تحوّل الاهتمام الآن إلى صناعة الفن، إلى العمل، إلى الوقت وليس إلى العمل النهائي الذي يبدو أنه يتلاشى. وفي هذا السياق، يشكل تجهيز "على منحوتة" المؤلف من فيديو ومطبوعات لداستن كاوتشي (*من مواليد العام 1981 في مالطا) وباولو تونيوتزي (* من مواليد العام 1990 في بونتي ديل أوليو، إيطاليا) محاولة لتصوّر الحوار بينهم حول إنشاء عمل فني غير محدد قد لا يتحقق أبداً. وما هو مرئي هنا هو ما كان مشتتاً في العمل الفني النهائي: المسار، والتجارب، والرفض، والأخطاء.
إن عرض اللامرئي هو أيضاً فعل احتجاج. في الفيديو الذي أعدّه فابيان بيشتلي (* من مواليد العام 1980 في برلين، ألمانيا)، عرضت جولات في متحف الفن المعاصر المهجور والفارغ في بلغراد. فيظهر القيّم الفني، من خلال الكلمات، ما هو غير مرئي في الصورة وينتج بيشتلي، عن طريق الإزالة مجدداً، إدانة للسياسة الثقافية في صربيا والمقاومة ضد ما هو زائل.
بالتجوال عبر ميديتيرينيا 16، يخيّل إلى المرء أنه يواجه تحولاً في الرأي باستمرار. و"كاسكادا تي في" هو عنوان الفيديو لبوجار سليماني (*من مواليد العام 1981 في بريشتينا، كوسوفو)، الذي يعني باللغة الصربية - الكرواتية أعطال التلفزيون المتمثلة بالصور المشوشة. وقد أنجز الفنان فيلمه التجريبي بفضل هذه الأخطاء، استناداً إلى سرد وثائقي هو في الوقت نفسه شخصي وغير عقلاني. ويسعى عمل "هيرتافورمينغ" لأنا فوزداريتش (*من مواليد العام 1983 في زغرب، كرواتيا) إلى إعادة بناء حياة نساء مجهولات. وهذا تجهيز شعري يضمّ مطبوعات أشعة سينية يبذل الجمهور بموجبها المزيد من الجهود ليعيد تنظيم رؤيته مما هو معاكس أو غائب.
ولا يخلو المعرض من مجموعة صور فوتوغرافية لأحمد كامل (*من مواليد العام 1987 في القاهرة، مصر)، بعنوان "الرؤية"، تبيّن أفراداً أصيبوا في خلال الانتفاضة المصرية وفقدوا أعينهم جزئياً أو كلياً. وهذه المرة، تبدو الرؤية كفيفة مع أنها تتوجه مباشرة إلينا، إلى الجمهور، فنصبح غير مرئيين. لذا، لا تفلت أعمال هؤلاء الفنانين الشباب من توحيد الصور فحسب، وإنما من جمهور ميديتيرينيا 16 أيضاً.
ملاحظات:
Giuliana Prucca
Researcher in contemporary literature and visual arts. Editor and translator, founder of AVARIE (Artbooks Vuoti A Rendere International Edition), Paris.
بالتعاون مع
منطقة مارشي
بلدية أنكونا
مؤسسة حاجز أمواج فانفيتيليانا
ميديتيرينيا 16
بينالي الفنانين الشباب
6 حزيران/يونيو – 7 تموز/يوليو 2013
Mole Vanvitelliana
Banchina Giovanni da Chio, 28
60121 Ancona
Italy
الموضوع: أخطاء مجازة
القيّمون الفنيون: شارلوت بانك، أليساندرو كاستيليوني، نادرة لقون، دلفين لوكاس، سلوبدون فيزي / لوس أسوسيشن (ناستاس بودروزيتش، إيفانا ميستروف)، ماركو ترولي، وكلوديو زيكي
أكثر من 200 فنان تم اختيارهم من خلال الدعوة الدولية التي أطلقها بينالي المبدعين الشباب من أوروبا وحوض البحر الأبيض المتوسط مع شركاء من أوروبا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
المنظّم: