فور دخول مركز بيروت للمعارض، حيث يقام معرض "متى يحين الحاضر: تحية إلى الحالمين"، تجد نفسك أمام صورة فوتوغرافية جوية ضخمة لبيروت في العام 1997. ففي الواقع، إن لوحة (حلقة من الاضطراب) عبارة عن أحجية مصنوعة من 3000 جزء. ويدعى الزوار إلى إزالة تلك الأجزاء عنوة فيتملّك كل واحد جزءاً من شاطىء بيروت أو حياً من أحيائها. وبينما تتزايد الثقوب في الرسمة التاريخية، تبدأ المرآة المختبئة تحت الصورة بالظهور شيئاً فشيئاً. وبالتالي، تتغير الصورة باستمرار مع تزايد التحركات أمامها، غير أن ما يظهر بشكل أساسي من جراء تفكك الفسيفساء ليس سوى انعكاس لصورة الزوار في ما قد يشبه نظرة مقلوبة ينعكس فيها المتفرّج ذاته.
منذ البداية، يواجه الزائر تعقيد المكان وموقعه فيه، فيجد نفسه تلقائياً يؤدي دوراً في مساحة العرض من خلال صور مجزأة لعاصمة لبنان، بيروت، حيث ترعرع الفنانان في خلال الحرب الأهلية التي دامت 15 عاماً وطوال الفترة التي ركّزا فيها على جهودهما الفنية المتواصلة. إلا أن هذا الانعكاس لا يحدث إلا على حساب وحدة الصورة الأولى.
غير أنه يصعب التقاط مدينة بيروت كما يصعب تمزيقها وتفتيتها بين ماضيها المتعدد الأوجه وطموحات مستقبلها. فبعد أن بنيت وهدّمت مراراً وتكراراً، أصبحت طبيعتها الهندسية تظهر تنوعاً في الآثار المخلّفة من أزمنة وأماكن مختلفة. فتتداخل قشور المعاني في تلك البيئة غير المنظمة أصلاً عبر الملصقات والرسومات التي تعكس المناهج السياسية الماضية والحاضرة. وقد كتبت ملاحظة مثيرة على الناحية الخلفية للأجزاء التي منها تتألف صورة "حلقة من الاضطراب" تقول "بيروت غير موجودة". ولكن المقيّمة ميران أسانيوس ما لبثت أن كتبت "لا بل موجودة" في النص المرافق للمعرض، إنما ليست بمكان واضح ومحدد وملموس.
أما من الناحية الخلفية للحائط المعروضة عليه الصورة، يظهر تقدّم الأجهزة واختفاء الصورة الجوية تدريجاً، العرض بواسطة لولب فتُهدم بيروت لتعود وتنشأ بحلّة جديدة. وبهذا، يصبح الاختلاف في التكرار الذي قرّر مصير تاريخ بيروت عنصراً أساسياً لصورتها المحتملة.
وبطريقة أو بأخرى، ينتج كلّ من الأعمال في هذا العرض صوراً محتملة لبيروت المجزأة عبر التساؤل حول وضع الصور الموجودة. فيركّز العمل الفني الأجد من بين الأعمال المعروضة "مجتمع الصاروخ اللبناني، عناصر النصب التذكاري" على وقت تاريخي مميّز، كاشفاً عنه من خلال مجموعة معقّدة تتضمن تبعات كثيرة، وهو يعنى بمشروع يكاد أن يصبح طيّ النسيان، وتبنته مجموعة من الباحثين في جامعة هايغازيان الأرمنية في الستينات. فبينما كان الروس والأمريكيون منهمكين في سباقهما الهستيري إلى الفضاء، قام هؤلاء العلماء بخلق أول صاروخ في العالم العربي. كان العلماء يحلمون باستكشاف الفضاء الخارجي إلا أن تدخل الجيش الذي تلى بيّن عن غموض ما باعتبار أنه يمكن استخدام الصاروخ كسلاح أيضاً. ويبدو هذا المشروع بالنسبة إلى الفنانين كمَوْشور يعكس في الوقت نفسه مسعى مجموعة صغيرة إلى التقدم العلمي والأحلام شبه الرومنسية المتعلّقة بالحرية، إضافة إلى الوضع السياسي المتوتر الذي ساد في خلال الحرب الباردة وبروز عدة عقائد ومناهج في العالم العربي.
أما أعمال مجتمع الصاروخ اللبناني فينظر إليها على أنها عمل في تقدم مستمر مؤلف من عدّة أجزاء، لم يعرض بعضها في هذا المعرض مثل رسم الصاروخ المسمى بـ"أرز 4" الذي تم التبرّع به إلى جامعة هايغازيان، ومثل الفيلم الوثائقي الاختباري الذي سيُطلق لاحقاً في العام 2012.
أما في ما يخص العمل "متى يحين الآن؟"، فالإعداد معقّد للغاية. يُظهر فيلم من الأرشيف على شاشة تلفاز صغيرة إطلاق صاروخ "أرز 4"، ثم على حائط طويل إلى الجانب، عُلّقت 32 صورة فوتوغرافية مستطيلة متساوية البعد. ومتى جُمعت كلّ الأجزاء معاً لتُشمل بنظرة واحدة، ألّفت اللوحة الصلة لـ"أرز 4" بحيث يصوّر كلّ جزء قسماً صغيراً منها. وإذا ما أمعنّا النظر في الرّسم، تبيّن لنا أن الأجزاء ليست بصور مسطّحة، بل هي أحجام مصنوعة من خلال طيّ الصورة بكاملها في 32 طيّة وعرض واجهة واحدة منها فيما تبقى الأوجه الأخرى موجودة إنما مخبّأة مستترة. وتحت كل جزء، نجد صفحة من "ألبوم الرئيس" الذي يعطي اسمه لهذا التجهير الفوتوغرافي، يعيد نقل إطلاق "أرز 4". إلى جانب ذلك، يُعرض فيلم يظهر باحثين وهم يعملون آنذاك على المشروع ويتصفحون هذا الألبوم ويشرحون في الوقت نفسه كيفية عمل الصاروخ، معيدين إحياء ذكريات الماضي.
إضافة إلى ذلك، يمكنك أن تشاهد مجموعة لقطات أخذت في أثناء نقل عمل الـ"أرز 4" عبر بيروت باتجاه جامعة هايغازيان. وفيما يظهر المحيط المدني بشكل واضح في الصور، يبدو الصاروخ مبهماً ولعلّ ذلك يعود إلى السرعة، إلا أن ذلك جعل تمييزه غير ممكن بسبب الصواريخ التي دمّرت أقسام المدينة بالكامل. فالنظرة إلى ما هو واقعي متأثرة بتضمين خيالي للآن.
ونذكر عملاً آخر متعلقاً بهذا المشروع وهو "البساط". إنه عبارة عن سجادة يبلغ حجمها 5.5x 3 متراً برسم طابع "أرز 4" وقد أنتج في العام 1964 للاحتفال بمرور 21 عاماً على استقلال لبنان. ونجد أيضا بساطاً بالحجم نفسه نسجته في العشرينات أكثر من 400 فتاة أرمنية، وقدّم فيما بعد إلى البيت الأبيض كعربون شكر لأميركا على مساعدتها لِمَيتمهنّ في لبنان. ونجد أيضاً في المعرض بعض الصور المستخرجة من الأرشيف وبعض الأفلام التي تعرض طريقة العمل.
ويبقى آخر عنصر من ضمن إطار مجتمع الصاروخ اللبناني عمل "القرص الذهبي". من الناحية المرئية، يشكل انعكاس قرص على الأرض، ويستمرّ هذا القرص بالدوران، وبالوقت نفسه، يقوم جدول زمني بتعداد الأصوات التي يتم بثها في المكان عينه، ونذكر منها أصوات القمار الصناعية والأبجدية بمختلف اللغات إضافة إلى صوت بائع كعك وخطاب الرئيس ناصر في العام 1967 الخ. تردد كل تلك الأصوات الصدى الذي خيّم على الستينات، لا الأصوات المنبثقة عن الحياة اليومية أو عن نشاط العلماء وحماسهم تجاه اكتشافاتهم فحسب، بل أيضاً الأصوات المنبعثة من الجو السياسي الذي هيمن عليه الأمل في وحدة عربية. وفيما أرسل الأمريكيون صاروخ فوياجر غولدن ريكورد إلى الفضاء الخارجي كأثر لوجود حياة على الأرض، فهل أصبحنا غرباء بالكامل عن أصداء ذلك العصر؟
بالإضافة إلى هذه الأعمال العصرية، نجد بعض الأعمال القديمة معروضة في المكان نفسه، مشكلة حواراً حميماً بين الأعمال كلّها. وفي ما خص عمل "الصور الدائمة و180 ثانية من الصور الدائمة"، فهو يقتصر على فيلم قصير كان ملك عمّ جريج الذي اختفى في الحرب الأهلية، فضلاً عن الطبعات الفردية لإطاراته الـ4500 الاستثنائية. بالكاد يستطيع المرء أن يرى عبر بياض تلك الصور فمن وقت إلى آخر، يمكنك أن تلحظ ظهوراً غامضاً مفاجئاً. فكما عمل حلقة من الاضطراب، يجد الزائر نفسه أمام أحجية إلا أنها في هذه الحال مركبة من لحظات منتشرة في المكان لتشكّل لوحة من الصور الزمنية. ويتكوّن عمل "صور كامنة" بدوره من صور غير مظهّرة كان قد التقطها المصوّر عبدالله فرح. وبدلاً من الصور الفوتوغرافية، يمكنك أن تشاهد صوراً من لفّة الفيلم غير المظهّر و38 صورة سوداء تجتمع فيها أوراق تحمل مواصفات لما أمكن مشاهدته على صورة فوتوغرافية.
ثم يجري تقديم فيلمين على شاشتي تلفاز: فيلم "برمة" الذي يظهر فيه ربيع مروّة وهو يقود سيارة في أحياء بيروت، متكلّماً على المدينة التي يصعب تمييزها بسبب عرضها بشكل فائق. يشير صوته وصوت الراديو إلى المحيط لكن هذا الأخير يبقى وهميّاً غير واقعي وغير ملموس.
أمّا فيلم "لا تمشِ"، فيمثّل خبرة كلّ من الفنانين: في العام 1999، أجبرت الفنانة حجي توما على أن تلازم الفراش بسبب ظروف حملها الصعبة. وفي خلال الفترة المذكورة عينها، قامت بتصوير فيلم تنقل من خلاله محيطها بكلّ ما فيه من حميمية، فيما كان جريج يصوّر العالم الخارجي لينقله إليها.
وفي ما يتعلّق بأعمال "زريبة الحيوانات" و"معادلات"، فهما سلسلتان من الصور لآثار وجدت في بيروت. يظهر عمل "زريبة الحيوانات" تفاصيل مادية مثل قطع معدن أو بقايا سيارات مهدّمة. وتبدو هذه الصور مألوفة بشكل غريب، إذ نلاحظ تقارباً مع أشكال حيوانية، ما يقترح فهماً للبيئة يكاد أن يكون سريالياً. فالقرابة مع منحوتة براساي غير الإرادية واضح للغاية. أما فيلم "معادلات"، فيقدّم بأسلوب مربك منازلَ مخرّبة في بيروت، ما يعطي الصورة طبعة وهمية.
وبالعودة إلى "متى يحين الحاضر: تحية إلى الحالمين"، لا بدّ من أن نذكر أنه يسلّط الضوء على نواحٍ مختلفة من بيروت، فيتطرأ إلى ماضيها وإلى حاضرها، ثم إلى ماضيها كما يُنظر إليه في الحاضر، وذلك من خلال تداخل عدة وقائع عبر صور وأشكال محتملة، فيفسح بذلك المجال أمام الحلم والخيال". "فهل يمكن أن تشكل الاستفاقة توليفاً يتأتى من صحوة الحلم كأطروحة من جهة وصحوة الإدراك كعكس الأطروحة من جهة أخرى؟" سأل والتر بينجامن في مشروعه أركاد بروجكت: "حينها، يصبح وقت الاستفاقة متجانساً مع آنية المعرفة التي فيها تظهر الأشياء بشكلها الحقيقي والسريالي".
Stefanie Baumann
Professor of Philosophy of Art at the Lebanese Academy of Fine Arts. Currently preparing her PhD on Walid Raad's "Atlas Group Project". She lives and works in Beirut and Paris.
يقدّم العرض أشكال ألوان ومركز بيروت للمعارض
منظّم المعرض: أشكال ألوان
منظم مشترك: ميران أرسانيوس.
يقدم عملهما أيضاً في دبي للفن، مدينة الجميرة، دبي، من 21 إلى 24 آذار/مارس 2012.
معارض أخرى:
مجتمع الصاروخ اللبناني: الأجزاء 3،4،5
من 18 آذار/مارس إلى 19 نيسان/أبريل 2012
ثرد لاين، دبي.
متى يحين الحاضر: تحية إلى الحالمين
28 شباط/فبراير – 20 نيسان/أبريل 2012