في أثناء التحضيرات لمنتدى أشغال داخلية 5، كان التوجه العام السائد في بيروت - الخارق بواقعيته – يختصر بسؤال واحد: هل سنضطر مجدداً لتأخير فترة انعقاد المنتدى هذا العام بسبب النزاعات السياسية كما كانت الحال عليه في كل نسخة من هذا الحدث حتى الآن؟ شهدت البلاد مراراً وتكراراً في الأشهر السابقة لحظات حرجة تخللها تصعيد للاستفزازات المتبادلة بين لبنان وإسرائيل. وأرسل جار "الجنوب" طائراته المقاتلة لتحلق فوق المدينة. إلا أن الوضع التزم الركود، ما سمح لمنتدى الممارسات الثقافية الذي تنظمه أشكال ألوان، أشغال داخلية 5، بالمضي قدماً كما كان مقرراً.
انتظم برنامج هذا العام حول خمسة مواضيع تشمل التعليم والصوت وستينات القرن العشرين وجزيرة السعديات والنزعة العسكرية. وقد تمحورت المعارض والمحاضرات والعروض وحلقات النقاش ومحادثات الفنانين والحفلات الموسيقية وأفلام الفيديو المزمع عقدها في مواقع مختلفة من المدينة على مدى عشرة أيام حول هذه المواضيع. وبما أن أشغال داخلية تمكّن من تسيير فعالياته من دون التركيز على البرنامج حتى الآن، فقد بدا المنتدى مستفيضاً بشكل ملحوظ هذه المرة. وكما دائماً، حرصت مديرة أشكال ألوان كريستين طعمة على ألا يكون أشغال داخلية مجرّد حدث مدرج على جدول الأحداث الفنية العالمية. وعلى رغم الجهود المبذولة في هذا الصدد، إلا أنه تجاوز طابعه السابق كـ"اجتماع عائلي" استقرائي يسوده جو من الزمالة. فلم يكتسب المنتدى أهمية ونفوذاً على المستوى الإقليمي وحسب، بل قام بتوسيع دائرته بصورة متزامنة على المستوى الدولي. وبالفعل، شهد هذا العام زيادة في عدد الفنانين المدعوين الذين لا تعود جذورهم إلى المنطقة. وكان هذا الانفتاح ضرورياً. إلا أن ما كان كفيلاً بتوقيع الحدث بنبض جديد استحال تراجعاً في جودة المادة الحالية.
إن برنامج أعمال داخلية 5 الطموح تغاضى عن معالجة بعض النقاط الأساسية شأن المادة الجامدة. فكان التركيز على واحد أو اثنين من المواضيع المقترحة ليعدّ كافياً لتغطية كامل إطار المساهمات الممكنة. وعلى مدار المنتدى، ظهر جلياً أن التركيز يصب على مسألة التعليم المختصرة بشعار هذا العام: "بيروت حرمنا". وبدلاً من التبادل المثمر بين الاختصاصيين والمهتمين، بدا وكأنه قد تم استبقاء الجميع بعد المدرسة بموجب احتجاز جماعي.
بيد أن لحظات مذهلة أيضاً تخللت الفعاليات شأن العرض المسرحي فوتو رومانس للينا صانع وربيع مروة وعرض طوني شكر وجولات أشكان سباهفند فضلاً عن ندوة بإدارة باد ما (النفاذ العام إلى أرشيف الإعلام الرقمي). في هذا النشاط، قام كل من الفنانين والباحثين المشاركين بعرض نتائج ورشة عمل سبقت المنتدى معتمدين جميعهم على أرشيف إلكتروني كأداة لمختلف أساليب عملهم.
فوتو - رومانس يروي قصة حب عبر صور فوتوغرافية بالأبيض والأسود تبث على شاشة من قماش تقع في الصدارة، فترافق الحوار بين ربيع مروة ولينا صانع. ويستند هذا العرض المسرحي إلى فيلم لإيتوري سكولا أنتج في العام 1977 بعنوان، يوم خاص، يتم فيه تقارب بين شابة وجارها في حين أن كل السكان في الجوار يقتحمون شوارع روما احتفاء بزيارة هتلر للدولة. وعمل مروة وصانع على إدخال التعديلات على السيناريو فضلاً عن الكثير من السخرية الذاتية ليعالجا الأحداث التي وقعت في بيروت في ربيع العام 2005، تاريخ اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري الذي تبعه احتشاد لمئات الآلاف من الأشخاص في وسط المدينة للتظاهر ضد الاحتلال السوري.
كشف طوني شكر طبقات متعددة في مجال التنمية التاريخية الحضرية في بيروت في خلال تجوّله في أرجاء المدينة سيراً على الأقدام برفقة ذكريات ذاتية وحقائق تاريخية ليرسم خارطة ذهنية نفسية جغرافية للمدينة.
وضمن إطار العلاقة القائمة بين الذاكرة والتاريخ وكيفية إدراجهما في نطاق التصوير، قام الكاتب الإيراني الأمريكي أشكان سباهفند بقيادة سلسلة من الجولات في متحف بيروت الوطني تحت عنوان، سوى أحد ما لم يكن هناك أحد. وبدعم من دليل محترف في المتحف وفرقة مسرحية محلية، وضع حبكة لرواية في أرجاء المتحف حيث شكّلت مجموعة مختارة من التحف المعروضة نقاط انطلاق لصلات فردية متجاوزاً تصورها كشهود موضوعيين على واقع الماضي. والمزج بين الحقيقة والخيال لم يوضّح معالم عملية بناء التاريخ فحسب، بل سمح أيضاً بإجراء مناقشات دينامية تغطي مجموعة من المواضيع شأن تحديد الدولة لذاتها إزاء التراث الثقافي.
إذا كان المقصد من الندوات الثلاث حول موضوع التعليم يكمن في مناقشة أساليب التدريس غير التقليدية، بما تقدّمه من وجهات نظر تفيد أكاديمية أشكال ألوان المقرر افتتاحها في خريف هذا العام، فقد قللت مجاملات أبطالها من أهميتها. وترافقت الندوة بكليشيهاتمن دون أن تحدد الشكل الذي ستأخذه الأكاديمية في نهاية المطاف. فلا شك في أن أشكال ألوان ستواجه الكثير من العراقيل على طول الطريق. تكفي رقابة الدولة بحد ذاتها لتطرح تحدياً بالإضافة إلى الاعتماد على المنظمات غير الحكومية لتغطية التكاليف التشغيلية. من ناحية، يفرض هذا الوضع المنافسة بين أشكال ألوان وغيرها من المؤسسات المحلية غير الربحية. ومن ناحية أخرى، لكل من هذه المنظمات غير الحكومية جدول أعماله المعنية بمجموعة من المواضيع الخاصة بمنطقة محددة.
بتنسيق وليد رعد، سعت الندوة حول منطقة جزيرة السعديات الثقافية الجاري بناؤها حالياً في أبو ظبي إلى توضيح الظروف المعاكسة التي تواجهها المنطقة. وفقاً لرعد، لا تمثل هذه المنطقة – التي صممها عدد من أبرز المهندسين المعماريين وأودعت فيها مجموعات فنية معروفة عالمياً - مجرد مكان استقطاب سياحي آخر. فإن أبو ظبي تخطط لإنشاء بنية تحتية تشمل جامعات ومجلات وجوائز فنية ومجموعات غربية وإقليمية للفن الحديث والمعاصر وصالات عرض ونقاد وأرشيفات ومكتبات. وبدلاً من المضاربة على دوافع الشيوخ لإجراء من هذا القبيل، بدا أن القراءة بين سطور التطورات الحالية والمستقبلية أكثر إنتاجاً من الوقائع المتوفرة في متناول اليد. وعلى رغم هذه الجهود المبذولة في سبيل محتوى أكثر صرامة، إلا أن المرء يشعر في خلال الندوة بأن النقاش لم يتجاوز النقد العام لجنون عظمة القيادة الإماراتية وتشبثها بالتقاليد وتجاهلها للقيم الفنية واعتمادها على عقلية موجهة نحو الربح. وفي النهاية، نجحت الندوة في إبراز الصدام بين الاستعداد الفكري للحوار وذهنية ديزني لاند الاستعمارية الجديدة حيث أن الكاتب والمراسل الإخباري مشعل القرقاوي من دولة الإمارات العربية المتحدة شدد على ما يلي: "يمكنني أن أتصل بكريستين وأطلب منها أن تنظّم أشغال داخلية في دبي أو أبو ظبي. وبطبيعة الحال، سترفض. ولكنني أستطيع أن أجد شخصاً ترك أشكال ألوان ليساعدني على تنظيم حدث مماثل. وقد نطلق عليه اسم أعمال داخلية بدلاً من أشغال داخلية".
Daniel Berndt
Studied art history and philosophy at the Freie Universität Berlin. Lives in Berlin, Germany.
أشغال داخلية 5
22 نيسان/أبريل – 1 أيار/مايو 2010
بيروت، لبنان
من تنظيم: