إن هذا المشروع المتميّز بقابليته للتغيّر بسرعة وسهولة قائم على سلسلة من العروض التي قدِّمت على أبواب مدينة تطوان (المدينة التقليدية المحصنة). كان يكفي أن يجول المرء في هذه المدينة المغربية بين الثامن والرابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر ليلتقي الفنان الشاب محمد المهداوي جالساً عند أحد المداخل السبعة إلى المدينة، خلف جهاز غريب تماماً هو عبارة عن جرة كروية الشكل ونصف مملوءة بالماء تشبه أحواض السمك والكرة الزجاجية في آن معاً، وقد تم وضعها على منصب ثلاثي القوائم مصنوع من الصلب الرفيع. ويؤدي الأنبوب الشفاف الموصول بأسفل الجرة إلى يدي الفنان الذي يشغّل نظاماً للري بالتنقيط. فتسيل المياه في وعاء صغير من الفخار مليء بالحبر. وتفيض المياه البنية اللون على سطح ورقة كرتونية دائرية يبلغ قطرها ثمانين سنتيمتراً تقريباً وضعت على الأرض.
إن كل مدخل محمّل بتاريخ خاص يروي ماضي هذه المدينة الفريدة بما تشكله من تحفة معمارية ترد على لائحة منظمة اليونسكو للتراث العالمي. ولطالما كان لكل من باب العقلة، وباب السعيدة، وباب السفلي، وباب المقابر، وباب النوادر، وباب التوت، وباب الرموز، وظائف مختلفة ذكرت بشكل شاعري في عمل محمد المهداوي. وقام الفنان الذي قرر أن يقدّم عرضاً عند أبواب المدينة السبعة على مدى سبعة أيام، بمعدل باب واحد يومياً، بتخصيص وعاء لكل باب بأحجام ترمز إلى أهمية هذه الأبواب في القرن الثامن عشر وهو العصر الذهبي لتطوان. ويقول في هذا الصدد: "ترمز الأوعية إلى أبواب المدينة العتيقة. وتعتمد أحجامها على تقدير لعدد الأشخاص الذين اعتادوا اجتياز هذه العتبات في اليوم الواحد في القرن الثامن عشر، كما أنها تشير إلى مختلف وظائف هذه الأبواب لأن بعضها كان أكثر عبوراًً من غيرها. أردت أن أبرز مرور الناس عبر الأبواب وأعبّر عن فكرة الفيض الدائم وازدياد عدد السكان عن طريق الإفراج عن قطرات المياه. لهذا، تمثل كل قطرة من المياه شخصاً يعبر الباب".
مع أن مبدأ عرض الأداء هو نفسه، إلا أن النتيجة تختلف من باب إلى آخر لأن كمية المياه التي تسقط في الوعاء تتوقف على عدد المارة. وفي نهاية العرض، تظهر على صفحة الورقة آثار بنية اللون من الحبر بسبب فيض المياه من الوعاء الذي يتناسب شكله واتساعه وعرضه مع كل لحظة من لحظات العرض. ولدى سؤال الفنان من طرف المارة عن طبيعة عمله وأهميته، يجيب ببساطة: "إنني أصنع لوحة فنية". الواقع أن عمل المهداوي يسلّط الضوء على ظرفية مسار الخلق وصلاته بالأحداث اليومية والعشوائية. وفي الوقت نفسه، يجمع بين الوسائل البسيطة والتقليدية مثل الورق الكرتوني والحبر والصلصال والخشب مع عناصر معاصرة مثل الري بالتنقيط والوعاء الزجاجي. فيشكل هذا العمل مزيجاً غير مألوف يؤسس لواقع متواز مع واقع المغرب، هذا البلد المتأرجح باستمرار بين التقليد والتجديد.
في مشروع فيض، يجمع المهداوي بشاعرية بين الاعتبارات الماضية لمدينة تطوان ووقائعها الراهنة. ويشير انتشار عنصر المياه مباشرة إلى المدينة التي استمد اسمها من الثقافة الأمازيغية بما يعني "العيون" و "الينابيع" في آن معاً لأن المدينة بنيت حول عدد كبير من الينابيع المتواجدة في المنطقة. ومتى أصبح أحد الينابيع محاطاً كلياً بالإنشاءات، كان الناس ينتقلون إلى ينابيع أخرى. وبالتالي، يمكن القول إن المياه شغلت دور المهندس الأساسي. وليس النظام القديم الجوفي لمد المدينة بالمياه إلا إثباتاً لمدى متانة الصلات التاريخية بين سكانها والعنصر الحيوي. بيد أن جزءاً كبيراً من التحصينات قد اختفى اليوم بعد أن دمرها الإسبان في القرن العشرين لربط المدينة القديمة بالمنطقة الإسبانية الجديدة. وقد توسّعت المدينة خارج أسوارها حتى باتت تعتبر الآن منطقة تراثية غارقة داخل المدينة المترامية الأطراف. ولم تعد إمدادات المياه القديمة تعمل باعتبارها المصدر الرئيسي للمياه، فاستبدلت بنظام حديث. وبمشروع فيض، يعيد المهداوي تقديم تاريخ المدينة وصلاتها بالمياه في خضم التطور الحضري.
بتنفيذ العرض في أوقات مختلفة وأماكن مختلفة ضمن إطار مشروع واحد، يشدد المهداوي أيضاً على التناقضات بين مختلف مناطق تطوان. فيربط عمله باعتبارات سياسية. وعلى سبيل المثال، استخدم الفنان أوعية أكبر للدلالة على أهمية باب العقلة في القرن الثامن عشر. فكان هذا الباب الذي يعدّ الأقدم في المدينة مدخلاً إلى أراض أجنبية بما أنه يتصل مباشرة بالبحر الأبيض المتوسط ببعده عن مضيق جبل طارق بأقل من مئة كيلومتر. واليوم، يبقى أحد الأبواب الرئيسية من المدينة وأبرز مصادر فخرها. وقد تم ترميمه منذ بضع سنوات. وأصبحت الحافلات السياحية تقل السيّاح إلى المنطقة حيث يرحّب بهم تجّار متجوّلون يبيعون الحلويات والخضروات والدواجن الحية. وفي منطقة شعبية كهذه، يتناقض عرض المهداوي الهادئ مع محيطه. وقد استقطب انتباه عدة أفراد سرعان ما احتشدوا ليسألوا عن طبيعة هذا التجهيز المتطور الذي يشبه الأداة العلمية التجريبية. ولكن عرض الأداء كان مختلفاً بشكل تام في باب المقابر. فعندما يتبع المرء مسار الجدار خارج المدينة القديمة، يدرك أن الطريق المعبّدة تتوقف فجأة، ما يضطره لعبور المقابر للوصول إلى هذه المنطقة المنسية المشهورة للأسف بمشاكلها الاجتماعية. وإذا كان تواجد المهداوي بين نساء الريف اللواتي يبعن الريحان - المستخدم تقليدياً عند زيارة القبور – قد أثار فضول الناس، فإنهم بالكاد اقتربوا من الفنان أو طرحوا الأسئلة عليه. في الواقع، يكمن الغرض من زيارتهم محيط المقابر في التأمل وليست عقولهم خالية تماماً لاستيعاب هذا التجهيز الفني الصعب. إلا أن عمل المهداوي استطاع استقطاب انتباه الناس في محيطه المنهمك للغاية مع احترامه حميمية جوار بسيط ومعقّد مثبتاً بذلك دقة عمله ونضج تفكيره في السياق المندرج فيه.
لمواصلة لقائه مع سكان تطوان، اختار المهداوي إظهار آثار العروض السبعة في دار تقليدية للضيافة في المدينة (رياض كاسيلا). ويعكس هذا القرار حرص الفنان على تجنّب الأماكن المخصصة للمعارض الفنية، كما أنه يدل على مفهوم نشر الديمقراطية الذي يقتضي تقديم الفن للناس بدلاً من "جلب الناس إلى الفن". ويعتبر هذا المفهوم ملحوظاً في السياق المغربي حيث أن الفن المرتبط عادة بالرسم والنحت يكون محصوراً بنخبة مثقفة. وإذا كانت هذه الاعتبارات السياسية مستمدة من موقف المهداوي العالمي، فإن عرض مشروع فيض في منزل تقليدي في المدينة يعدّ ضرورة فنية قد تشير أيضاً إلى صيغة كابراو الشهيرة: "الفن كالحياة".
عرضت الأعمال الفنية في الفناء الداخلي (الباحة) والغرف ويمكن اعتبار المعرض برمته مجموعة من التجاوزات حيث يتشابك الفن مع الحياة اليومية ويستمر نشاط الفندق بلا انقطاع، فيتعايش الناس مع الأعمال الفنية. ويشغل الفناء عمودياً تجهيزٌ يتألف من وعاء أسود اللون يبلغ قطره 1.40 متراً تستقر فيه المياه الساقطة من السقف من علو 8 أمتار تقريباً. وفي الطابق الأول، تغص أربع غرف تقع على الجانبين من الفناء بالأعمال الفنية مع الإشارة إلى أن تنظيمها يحترم مبدأ التناظر الأساسي في الثقافة الإسلامية.
في إحدى الغرف، عرضت الأوراق الكرتونية الدائرية السبع تظهر آثار الحبر الناجمة عن مرور المواطنين عبر الأبواب. وقد وضعت الأواني الفخارية على رفوف زجاجية صغيرة تقع تحت كل حلقة. ويمكن تقدير تباين النتائج الذي يرمز إلى السياقات المختلفة التي أقيم العمل فيها: حجم الآثار ولونها تبعاً لحجم الآنية وعدد المارة فيما كان الفنان حاضراً والشكل المولّد بفعل ميلان الأرض. ويعرض في الغرفة الثانية شريط فيديو قصير من إعداد محمد أرجدال، وهو فنان شاب واعد تخرّج حديثاً من المعهد الوطني للفنون الجميلة بتطوان. وعلى الشاشة، تركز الصورة على الإناء المصنوع من الطين والمملوء تدريجاً بالمياه البنية اللون. وفي الخلفية، يمكننا أن نميّز حركة المارة فيما يملأ صخب المدينة الحية الغرفة. وعلى الجانب الآخر من المنزل، يعرض وثائقي فوتوغرافي من إعداد المصور الشاب خالد البستريوي يصل عروض الأداء في ما بينها. وعندما ندخل الغرفة الأخيرة، يلمع ضوء شاحب اللون في الظلمة عبر شكل سداسي أبيض اللون قطره 10 سنتيمترات مغروس في الأرض. ويمكننا سماع تسجيل صوتي لتساقط قطرات الماء المتكرر في المشروع بأكمله.
يشكل معرض فيض النتيجة المنطقية لسلسلة من عروض الأداء. إنه يجسّد عدة تحقيقات في شؤون مختلفة مثل طبيعة العناصر المبتكرة في عمل فني حي يجمع بين الأعمال الفنية والتوثيقية، كما أنه يلقي الضوء على عدة قضايا تقع في صميم سياق المدينة الراهن ويبرز الطريقة التي نسجت فيها الروابط مع السكان. ويصعب تصنيف مشروع فيض لمحمد المهداوي. فهو يتراوح بين عرض الأداء، والرسم، والتجهيز، والفيديو، والوثائقي، والممارسة الملتزمة اجتماعياً. ويكفي هذا الدفق ليعكس مدى تعقيد تطوان، المدينة التي تشكل حدودها وثقافتها الغامضة موضوع مفاوضات متواصلة يومياً.
Bérénice Saliou
French independent curator, lives in Marseille. As co-founder and Director of the Trankat Art Residency in Tétouan, she is heavily involved in Morocco.
أعدّ مشروع فيض ضمن إطار حدث تطوان الأبواب السبعة الذي نظّمته الجمعية المحلية تطوان أسمير بالتعاون مع معهد طنجة – تطوان الفرنسي والمعهد الوطني للفنون الجميلة.
إنه الجزء الأول من شارع الترنكات الذي يعتبر مشروعاً فنياً دولياً مصمماً لمدينة تطوان للعام 2010.
المدير الفني:
بيرينيس ساليو
المستشار:
يونس رحمون
المستشار الفني:
كارلوس بيريز مارين
محمد المهداوي:
فيض
18 – 25 تشرين الأول/أكتوبر 2009
رياض كاسيلا
26، شارع القائد أحمد
تطوان
المغرب