يقدّم مقر كونستهال فريديريسيانوم في كاسيل المعرض المنفرد الأول في ألمانيا لأعمال الفنانة الفرنسية من أصل مغربي لطيفة الشخش. ويشكل عنوان هذا المعرض "النحيب الطويل" الشطر الأول من قصيدة "أغنية الخريف" للشاعر بول فيرلين التي تعدّ من أكثر القصائد الفرنسية شهرة عن فصل الخريف. وعلى مختلف المستويات النظامية والموضوعية، يكشف معرض لطيفة الشخش اهتمامها بجوانب معيّنة من الوقت وقدرته على نقل الأحداث التاريخية إلى الزمن الحاضر وضمن سياقات جديدة. وبهذا، لا تكتفي الفنانة بالتشديد على مدة الوقت وإنما تركّز أيضاً بتجهيزاتها ورسوماتها وشعرها وموسيقاها على صفتي التكرار والخلود الملازمتين لمجرى الزمن.
يجمع أسلوب لطيفة الشخش في العمل بين التوقيع النظامي المبسّط والمحتوى المشحون سياسياً. وفي القاعة الأولى الواقعة في الطابق السفلي من معرض فريديريسيانوم، يرى الزائر عدة أرقام مرسومة بالفحم على الجدار، ومجموعات من الأوتاد العالية المصنوعة من المطاط الرغوي والإسمنت، ومقاعد أخذت من حدائق مهملة من مدينة كاسيل. وفي سياق مفهوم المحاسة البودليري، يتسع مجال الاستقبال الشبكي عبر الغطاء الصوتي الأساسي ليشمل مقطوعة موسيقية عزفت على البيانو. إلا أنه لا مجال لوجود اتصال مباشر بأي محتوى لا لبس فيها. فيبدو جلياً أن تجريد الأرقام والأوتاد المشار إليها وزخرفتها يتناقضان مع مقاعد الحدائق المسلوبة من الحياة اليومية. وتفيد المعلومات المتوفرة عن المعرض بأن الأرقام المستخدمة ليست إلا أرقام القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة حول الصراع الإسرائيلي - الفلسطينى منذ العام 1948 وحتى اليوم. بالإضافة إلى ذلك، وظّفت الفنانة التسلسل الرقمي أساساً لمعزوفة على البيانو تعتمد تقنية الإثنتي عشرة نغمة لشونبرغ، معدّةً القطعة الموسيقية خصيصاً لهذا المعرض. وفي تشابه مع قرارات الأمم المتحدة المستقبلية، تبقى المعزوفة غير منجزة وقد لا تجد نهايتها إلا عند التوصل إلى حل دائم للنزاع.
مع أو من دون معرفة هذه الخلفية السياسية جزئياً والموسيقية جزئياً، يستكمل الزائر جولته عبر المقاعد والأوتاد بمرافقة موسيقى جميلة ومبسّطة. وتذكّر الأوتاد المصنوعة من المطاط الرغوي والإسمنت بميادين إضافية يمكن الجمع بينها علماً بأنها تشبه بتنظيمها بقايا مقبرة مدنّسة (تستلقي بعض الأوتاد على الأرض فيما تستند الأخرى أحدها إلى جانب الآخر بشكل عشوائي) وأفخاخ دبابات وبطبيعة الحال منحوتات مبسّطة. وقد يشكل رسم سلسلة الأرقام على الجدار بالفحم بما يتركه من آثار للغبار الأسود على الأرض رمزاً للرماد. ويمكن تعرّف إشارة أخرى إلى الممارسة الموسيقية في مادية وشكل الأوتاد المصنوعة من المطاط الرغوي التي تمتص الصوت وتضعفه. وبناء عليه، يجدر القول إن القاعة الأولى المختصرة بعنوان "الغرفة" (2009) تظهر تحفّظاً في البيانات التي تقدمها، ولكن ليس في أثرها، ما يدعو المشاهد إلى التريث والتواني في الحكم.
في تجهيز شامل، حققت الشخش حدة جوهرية ازدادت أهمية في القاعة الثانية حيث أصبحت التلميحات السياسية والتاريخية أكثر واقعية كما يبدو جلياً على سبيل المثال في Trotteuse (عقرب الثواني) (1999) الذي يظهر يداً ثانية تستبعد من عالم الحياة اليومية. ويدل هذا العمل المفكك والمدرج في سياق جديد بفعل تقديمه في قاعة العرض على القيود الزمنية التي كان العمّال الفرنسيون يخضعون لها في أثناء الثورة الصناعية. ويظل السؤال مطروحاً ما إذا كانت الفنانة تريد أن تشير إلى أن الثواني دقت للمرة الأولى في العام 1585 في ساعة جمعها جوست بورجي من توغنبورغ في سويسرا في محكمة لاندغرايف فيلهلم الرابع في مدينة كاسيل. وتبقى الإشارة التاريخية الثانية متوارية في مجموعة واسعة من الأدوات العسكرية التي تعود إلى القرن التاسع عشر في عمل Untitled (بلا عنوان) (التدهور) في العام 2009 الذي يلمّح إلى قضية الضابط اليهودي في الجيش الفرنسي ألفريد دريفوس الذي اتهم زوراً بالخيانة وجرّد من رتبته. وتظهر مقاعد الحدائق والأرقام وصوت الموسيقى أيضاً في القاعة الثانية في استمرارية ملفتة تضفي الوحدة على المعرض بأسره فيستحيل كلاً شاسعاً متكاملاً. إلا أن أوراقاً زرقاء اللون تحوّل القاعة الثانية إلى مساحة قاتمة مظلمة، فتغدو أكثر حدة وحميمية من الأولى.
في الأعمال السابقة، انتزعت الشخش المعنى الفعلي من الأشياء المألوفة والأغراض المحددة ثقافياً. ففي تجهيز فانتازيا (الراية الفارغة) الذي أنجز بين عامي 2007 و2009، علّقت عدداً كبيراً من صواري الرايات السوداء على الجدران على شكل متاهة بدت أهم عناصرها مفقودة: الرايات نفسها.
في صراعات لطيفة الشخش الفنية، لم تلجأ الفنانة إلى أي انتقاد مفتوح وكأنها تتعمّد ألا تأخذ أي موقف. وعلى وجه التحديد في ألمانيا، يبدو الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني أكثر تفجراً منه في بلدان أوروبا الغربية الأخرى. ولكنها نجحت في Les sanglots longs (النحيب الطويل) في تحويل هذا الصراع فضلاً عن التأريخ الفرنسي لمعاداة السامية من مجرّد موضوع إلى عمل فني.
Alexandra Blättler
Art historian and curator. Lives in Zürich, Switzerland.
النحيب الطويل
29 آب/أغسطس – 15 تشرين الثاني/نوفمبر 2009