تَرافقَ انتعاش ممارسات الفن المعاصر التي تتسم بالمجابهة السياسية في تركيا مع السنوات التي تلت الانقلاب العسكري في 1980. وبدأ الفنانون، في هذه الفترة، بصياغة انتقادات لاذعة عن أيدلوجية الدولة ومثاليات نظرية النماء الاقتصادي الداخلي وكذلك عن الانقلاب نفسه. وقد اتخذوا كذلك موقفاً من المذهب الأرثوذوكسي الذي أضعف الحركات اليسارية في الستينات والسبعينات. وهكذا، تنامى في نفس الوقت عدم الثقة وعدم التسامح تجاه الفن المعاصر. وجاء هذا بشكل أساسي من جراء استثمار الشركات الخاصة المتزايد في هذا المجال في سياق ظهور الاقتصاد الحرالحديث العهد. ولكن الاعتراضات والنقاشات العامة حول بينالي اسطنبول الدولي الحادي عشر تبدو أكثر اتقاداً مما سبق. سأتناول، في هذا المقال، بينالي هذه السنة بالمقارنة مع النسخ السابقة وسأجادل في أنه قدم تصريحاً سديداً حول الحاجة الملحة لتسييس الثقافة، بينما أسس معارضة قوية في تركيا.
لم يواجه بينالي اسطنبول الدولي، الذي انطلق في 1987، أية صعوبة في غرز نفسه في الاقتصاد الخدماتي الحديث النشأة في تركيا. احتضنت المدينة بحرارة، في سعيها لإعادة وسم نفسها وإغراء المزيد من السواح، حدثاً فنياً دولياً يضع الأعمال الفنية في محل حوار مع العمارة القديمة، ويتضمن ذلك المنشآت البيزنطية والمناطق الصناعية الوطنية السابقة. وبقيت هذه المغازلة الفضولية بين الأبنية والأعمال الفنية، بقصد أو بدون قصد، في جوهر البينالي. لكن، القيمان الفنيان لبينالي 2005، فاسيف كورتون وتشارلز ايشه، قدما تحولاً مكانياً مفاجئاً من خلال نقلهم للمعرض وفعالياته إلى خارج المواقع التاريخية. لقد وضعوهم، بدلاً من ذلك، في منطقة جالاتا / بيجلو، المشهورة بكونها منطقة تجارية وسوقية مزدحمة تحولت مؤخراً لمحور للفنون والثقافة. وقد عبر هذا التحول المكاني أيضاً عن تحول في الأيدلوجية التي اعتنقها البينالي. استوعبت الأحياء المضيفة المعارض، بينما دخلت الأعمال الفنية في نقاشات العامة، بدلاً من بقائها كامتداد لتطلعات السواح.
عارضت فصائل مختلفة في المشهد الفني التركي بينالي اسطنبول منذ نشأته. غالباً ما تنتقد مدارس التوجهات الفنية الأكثر حداثة (التي في معظمها تركز على الرسم) والمعارض التجارية البينالي؛ إنهم يشككون في قوة وتنسيق الأعمال الفنية، والعدد القليل من الفنانين الأتراك المشاركين في المعارض، وطموح البينالي المزعوم بأن يظهر على المستوى الدولي فقط.كان هؤلاء الذين أطلقوا صوت الانتقادات السياسية في بينالي اسطنبول الدولي العاشر في 2007 "ليس فقط ممكناً، ولكنه ضروري أيضاً: التفاؤل في زمن حرب العولمة،" متلفظين أكثر من أي وقتٍ مضى. إنهم لم يهتموا بالأعمال الفنية بدرجة أكبر من اهتمامهم بتصريح القيم الفني هوو هانرو الذي حدد تركيا كمثل للرقي واقحام المشاريع المعاصرة في العالم اللاغربي. صحيح أن بينالي 2007 أثار الميول التعصبية والقومية، لكن الاعتراضات والادانات حول البينالي حظيت باهتمام وسائل الإعلام الرئيسية. وهذا دفع النقاشات المتعلقة بالبينالي من داخل دوائر الفن المحدودة إلى الساحات العامة.
يسهل عليَ القول أن بينالي اسطنبول الدولي الحادي عشر قدم تصريحاً سياسياً ناضجاً. اختار تجمع القيمين الفنيين المسمى ماذا، كيف ولمن (فريق ماذا، كيف ولمن – ايفيت تشورلين وآنا ديفيتش ونتاشا ليليش وسابينا سابولوفيتش والمصمم-الناشر ديجان كريشيتش) أن يصيغوا سياق البينالي بناءً على نظرية برتولت بريشت عن القوة الانبعاثية للفن وتطبيقاته، التي تقترح أن الممارسات القنية لديها القدرة على تحويل الحياة اليومية، بل وحتى السياسة. لم يقصدوا من هذه الخطوة إعادة اكتشاف فلسفة بريشت، بل اقتراح ما يمكن أن يقدمه الفن والثقافة في الوقت الحاضر فيما وراء الإيماءات الجمالية. يقدم القيمون الفنيون البينالي كمنبر لانتاج الحالات الحرجة والإثارة التثقيفية؛ إنهم يشددون على التشكيلات السياسية، والأهم من ذلك، على تسييس الثقافة. ولكن "فريق ماذا وكيف ولمن" يمتنع عن اصدار أحكام أو تصريحات حول التاريخ السياسي التركي كما حاول أن يفعل هوو هانرو في البينالي السابق، مما يساعد في جعل بينالي هذه السنة أقل عرضة للانتقادات الضحلة. وعوضاً عن ذلك، يبرز تجمع الفنانين قضايا عالمية: وهي كذلك تتخذ بريشت، كشخص يقدسه اليسار الأرثوذوكسي وكمرجعية أو ربما تهدف للتفاوض فيما بين المجموعات اليسارية من أجل حث جماعة أكبر مهتمة بالحوارات التحويلية.
هذه بعض الأمثلة القليلة من الانتقادات الموجهة لبينالي هذه السنة. ديرن اسطنبول، مجموعة معارضة تشتهر في الغالب بالتظاهر ضد لقاءات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي التي وصفت البينالي بأنه "كأصوات مزعجة وسخيفة من التصريحات الراديكالية العائمة في الهواء مثل الألفاظ الصعبة الغاية في التكرار." وحسب أقوال المجموعة، تبنى القيمون الفنيون مصطلحات مثل ’الاشتراكية والبربرية’ وأثاروا صدى في الصالون المكتظ بمموليهم وحراسهم الشخصيين وبوزراء يبتسمون ابتسامات خداعة وتنبعث من أفواههم رائحة نبيذ معتق،" في إشارة لمراسم الإفتتاح. [1] وقد قالت المجموعة، في رسالتها المفتوحة الموجهة لجميع القنانين والقيمين الفنيين: "... نحن نقاتل ... ونقاوم في الشوارع، وليس في مساحات الشركات المكرسة للنقاد المؤسساتيين المتسامحين وذلك لمساعدتهم على تنقية ضمائرهم." [2] ورد في مقابلة مع فريق ’ماذا وكيف ولمن’، والكَتاب والمحررون يوسل غوكتورك واولوس اتايرت واردين كوسوفا: "إن حقيقة وضع كوش [مجموعة الشركات الممولة لبينالي 2009] وبريشت إلى جانب بعضهما البعض تكشف اللثام عن الاحساس بالاستغلال وتجعل جمهور المشاهدين يبتعد عن البينالي." [3] كتب الفنان كافيت موكادس: "لقد قضى بريشت حياته كلها في المقاومة. من يجرؤ على ربط هذه الحماقة الدنيوية بالشكل الأبدي للإنسانية والأدب؟ [4] منذ متى أصبح بريشت مهرجكم؟"
بالرغم من أن هذه الأسئلة تصف هذه الانتقادات فقط، إلا أنها لم تزل تلمح إلى نوع متوافق عليه من الجدل: أصبح الفن المرتبط بالسياسة أداة تسويقية شعبية للفعاليات الفنية؛ إنه من ضرب الخيال التصور بأن هذه الفعاليات الفنية ستؤدي إلى تحول اجتماعي وسياسي؛ على العكس تماماً؛ بل إنه خارق للمعتاد بالنسبة للبعض، أن يستخدم القيمون الفنيون بريشت كمرجعية لبينالي تموله إحدى الشركات الصناعية والمالية الأكبر في تركيا. يبدو أن هذا الجدل لم يفرز بعد نقاشات ذات وزن حول القوة الانبعاثية للفن. وظلَ، بدلاً من ذلك، تذمرات أحادية الجانب، ذات تركيز قوي على العلاقة بين أدوات البينالي البلاغية ومموليه. استناداً إلى هذه النقاشات، يعترف فريق ’ماذا وكيف ولمن’ بفضل رعاة البينالي المثيرون للجدل ويسأل: إذا كان موقفكم السياسي يتشارك مع السيل الرئيسي، فما الذي في جعبتكم للمهادنة؟ كيف يمكنكم التفاوض على موقفكم وأنتم مقيدون أيدلوجياً؟ إن لم يكن لديكم استقلالية عن هيكليات السلطة الأكبر، فكيف يمكنكم الاستفادة من أدوات النظام القائم للتعبير عن أنفسكم؟
دعنا نكن صادقين، بينالي اسطنبول ليس مؤسسة ثورية، ولا يرتدي القيمون الفنيون قبعات ثورية. يدور اقتراح فريق القيمون الفنيون ’ماذا وكيف ولمن’ حول تسييس الثقافة. إن عملية البحث عن ألفة خطية بين الفن والسياسة ليست فقط ساذجة بل مخادعة أيضاً. لا تُغَيِر المعارض والمؤسسات الفنية مثل بينالي اسطنبول الدولي الحادي عشر النظام القائم، ولكن لديها الامكانية لطرح بدائل. تبدو محاولات المعارضة، التي لاتتعلق بشكل مباشر بالمسؤولية السياسية، الأصل الأعظم للفن المعاصر. لكن، سيحمى وطيس البينالي، بمناظرات معمقة عن الفن والثقافة والسياسة. وباستطاعته أن يثير التفاوض بين المجموعات المختلفة لمصلحة وقائع تصويرية بديلة وربما لإطلاق تجمع ونقاشات تحويلية. أستغرب أننا، في زمن الهشاشة الكبيرة للعلاقة بين المجتمع والسياسة، لانتحدث عن لماذا وكيف ومع من يمكن تأسيس هذه المساحة من الخيال.
ملاحظات:
Özge Ersoy
Curator and writer based in Istanbul. She is currently the Project Manager at Collectorspace, Istanbul.
بينالي اسطنبول الحادي عشر
12 سبتمبر -
8 نوفمبر 2009
اسطنبول، تركيا
الموضوع:
ما الذي يًبقي الإنسان حياً؟
القيمون الفنيون:
فريق ماذا وكيف ولمن
ماذا وكيف ولمن