إن علاقة باكستان بالغرب فريدة من نوعها إذا ما توقفنا عند تطورات هذه الدولة في مجال التكنولوجيا (بما في ذلك القدرات النووية)، وطبقتها الوسطى النافذة والعالمية (الحاسمة في قلب نظام مشرّف)، والتواجد الجوهري لما يعتبر أسوأ أعداء العالم الغربي (مختلف الجماعات الأصولية، بما فيها تنظيم القاعدة وحركة طالبان الباكستانية). ولا شك في أن الضغوط السياسية والاقتصادية والاجتماعية تلقي بثقلها على الحياة الوطنية الشابة نسبياً التي ظهرت في العام 1947 إثر المساعي التي بذلت للتحرر من الاستعمار والتقسيم الدراماتيكي للهند. في الواقع، لا يمكن الاستهانة بموقع باكستان الجغرافي السياسي والتحوّلات الجذرية التي فرضت نفسها على آسيا الوسطى والجنوبية.
في تربة خصبة مماثلة، ليس من المستغرب أن يكتشف المرء أن بذور الإبداع لم تعمّق جذورها وحسب، بل بسطت أيضاً فروعها الجمالية إلى أجزاء أخرى من العالم. ومن دون الرضوخ للغرب، تبرهن أمة "غالبية العالم" هذه يوماً بعد يوم ثقتها الصارمة واستعدادها الدائم للركون لمجموعة متنوعة من الإمكانات الإبداعية والتزامها الفعلي بـ"حرفة" صناعة الصورة.
يشكل معرض "إعدام النار" في نيويورك الذي تنظمه منظمة مجتمع آسيا وتتولى رعايته الباحثة المشهود لها بعطاءاتها سليمة هاشمي محطة هامة وطموحة لرفع الستار عن كوكبة كاملة من الفنانين الباكستانيين، المخضرمين والناشئين على حد سواء، الذين يشقون دربهم إلى الساحة الدولية. إنهم فنانون يبحثون عن تحدّي التقاليد والعقائد كما شبح الإرهاب، ويضطرون بشكل شخصي وخلاق للتعامل مع ماضٍ مؤثر ومستقبل غير مؤكد. ومن شأن هذا المعرض المرموق الذي يضم أعمال خمسة عشر فناناً بارزاً - زاهور الأخلاق، عمران قريشي، أنور سعيد، رشيد رنا، نايزا خان، هوما مولجي، حمراء عباس، باني عبيدي، أسماء مندروالله، أياز جوخيو، علي رضا، ماهرين تسوبري، عديلة سليمان، عارف محمود، وفايزة بوت – أن يمنح المشاهدين طعم الإمكانات التعبيرية الغنية الكامنة في باكستان. وقد سلّط كل هؤلاء الفنانين الضوء على قضايا تؤثر فيهم يومياً. ويمكن وصف ردودهم - الدقيقة، والفكاهية، والمسرحية في غالب الأحيان – على أنها آلية دفاع من داخل مساحة إبداعية مشحونة بمدلولات سياسية وثقافية.
إن الثقافة البصرية الحديثة السائدة في باكستان تعني مساراً بطيئاً ومعبّراً، حتى من منظور تقني. في هذا الإطار، تبدو مختلفة تماماً عن الومضات السريعة والعصبية في معظم الأحيان البارزة في غيرها من الممارسات الفنية الحديثة. وقد ألهمت علاقتها بالتقاليد الفنية التي أنتجت أعمالاً خزفية ومنسوجات ومنمنمات شهيرة أيام المغول مدرسة كاملة من الفن يمثلها هنا عمران قريشي وماهرين تسوبري. ويعدّ معرض نيويورك هذا الأول من نوعه في الولايات المتحدة بما يسلّطه من ضوء على مجموعة واسعة من الوسائط المستخدمة، بعد معرض أكاديمية الفنون في هونولولو في العام 2005 - "ألف يوم ويوم" - الذي ركّز على رسامات المنمنمات فقط.
إن مدارس ممتازة مثل كلية لاهور الوطنية للفنون وجامعة بيكونهاوس الوطنية ومدرسة وادي السند للفن والهندسة المعمارية في كاراتشي؛ والموجهين والمعلمين المتمرّسين مثل سليمة هاشمي وقدوس ميرزا وعدة فنانين؛ والتعاونيات الدينامية مثل مؤسسة VASL (التي تشكل جزءاً من شبكة مؤسسة تراينغل آرتس)؛ وجامعي الأعمال الفنية المعتبرين مثل خرام قاسم، تساهم جميعها في ضمان حيوية هذه الدينامية وتطوير المشهد الفني.
يكفي التجوال في شوارع كراتشي ولاهور ومضي بعض الوقت في منازل الفنانين ليدرك المرء أن وسائل الإعلام لا تنقل كل البؤس المستشري فيها. فيمثل هؤلاء الفنانون فيما "يعدمون نارهم" روح الشعب الخاضع الذي يحاول التحرر من السلبية واستيعاب الإيجابية، ويحاول الرؤية ولكنه يبقى كفيفاً ويحاول الإصغاء ولكنه يبقى أصماً. في هذا السياق، تحوّل الصور شأن صور عارف محمود "الشاب والشجاعة" وعلي رضا "ما من حرقين مماثلين" الفوضى المعتادة إلى انتقادات مؤثرة تعكس واقع الحال. وقد تتضمن خوذات عديلة سليمان المزيّنة إشارات فكاهية إلى فكرة الهجوم والدفاع وإيجاد وظائف بسيطة في الأشكال المعقدة. أما "اخرجوا من أحلامي" لفايزة بوت و"الغمام الحديدي" لنايزا خان فتستكشفان أفكار الغزو والانسحاب والحماية والحبس.
ليست القضية مجرّد قضية استنساخ للعالم أو تنديد بأهوال التاريخ. وإنما إنها فرصة جديدة للاعتراف، كما يؤكد إيتالو كالفينو في "المدن غير المرئية"، بأنه من المفارقة "ألا يكون من جحيم وسط الجحيم". لإحياء ما يتم إنفاقه أو رفضه، والاحتفال بشاعرية إعادة الابتكار في وضع تكون كل عناصره منظّمة، لا يلجأ الفنان إلى مجرّد استراتيجية للبقاء على قيد الحياة، ولكنه يشكل بحد ذاته تأكيداً شخصياً على أن الفن ضروري باعتباره شريان حياة وملجأ. ويبقى أن الفن، كما وصفته سليمة هاشمي، يمثل "فرصة للحوار والعصيان المتفاوض عليه والفكر المتمرّد".
تشكل "السجادة الحمراء" للفنان رشيد رنا استعارة لوجهات نظر متعددة الطبقات وتناقضات في العمل في بلد مثل باكستان. ولا تضم هذه الاستعارة القديم والجديد في مجالي الصورة والتقنية وحسب، بل أيضاً التقليد (البسط) والتاريخ (المذابح) وجميعها متشابكة في نسيج التجربة البصرية والشخصية الموجهة بشكل حدسي عبر عين الفنان. وبعكس الآلية البصرية لعمل رنا (الجمال والنظام من مسافة بعيدة والرعب والتشريد من مسافة قريبة)، لا يسعني إلا أن أخلص إلى القول إن أبشع الانطباعات الاختزالية لباكستان المشاهدة من بعيد تكشف، في مدنها وصالات عرضها، مجتمعاً معقداً يجسد أفضل فن حديث فيه أروع الدقائق البصرية.
Rosa Maria Falvo
Independent writer and curator, with a focus on Asian contemporary art. She is the Asia-Pacific Publications and Projects Consultant for Skira International Publishing in Milan.
القيّمة على الأعمال الفنية:
سليمة هاشمي
إعدام النار
الفن الحديث من باكستان
10 أيلول/سبتمبر 2009
- 3 كانون الثاني/يناير 2010