في إحدى الأمسيات، جاء بوبوك تريواهيودي [1] إلى منزلي بصحبة سؤال بحجم الجبل في ضخامته، ما هو دور الفن بالنسبة للناس؟ تأمّلت إن كان مازحا أم جادّا بسؤاله هذا. اعتقدت أنّ الأمر مفاجئ في الواقع. كيف يمكن لفنان وبالذات فنان معاصر، في يومنا هذا، أن يسأل سؤالا عن دوره بالنسبة للناس؟ وبالتالي، طرحت عليه سؤالا، أيّ فنان وأيّ فن تقصد؟ قال، الفنانون وأعمالهم التي نراها غالبا في قاعات العرض (الجاليري) والتي تُنشر في جريدة يوم الأحد (جريدة نهاية الأسبوع)، بالطبع. باختصار، الفنانون المعاصرون ... آه، فهمت. وبعدها طرحت عليه المزيد من الأسئلة، أيّ ناس؟ أجاب، عموم الناس بالطبع، العاديّون الذين نلتقي بهم في الـ كامبونغ (القُرى). ثمّ قلت له، إذا كانت هذه هي القضية فالجواب واضح: الدور غائب! نحن على علم أنّ معظم الناس يواجهون صعوبة في فهم الأعمال الفنيّة المعروضة في دور العرض الفنيّة المعاصرة. الذي يعلمونه هو أنّ الفن مُستعمل عادة للترفيه أو لتخليد لحظة أو شخصيّة أهل للتذكّر. هذا هو مفهوم الجمال في إدراك معظم الناس. وبالتالي، يجب أن يكون الجميل فعّالا وكفؤا إلى حدّ ما كذلك. إن لم يتمكّن الناس من الفهم (أو الاندهاش) أمام ما يرونه في دور العرض الفنيّة، فكيف يمكن لهم أن يستفيدوا منه؟
بالنسبة للفن المعاصر، ففي أفضل الأحوال قد يسمّيه الناس ’نييني‘ (فنّيّ). قد تعني كلمة ’نييني‘ أن لدى المقصود صفات من الفن (جميل). ولكن، تُستعمل كلمة ’نييني‘ لتسمية أيّ شئ غريب أو غير عاديّ أيضا. الناس تقول أنّ الفنّ المعاصر ’نييني‘ كتعبير عن عدم الفهم والتشوّش أو حتى السخرية نحو شئ أبعد من إدراكهم وليست فيه فائدة لهم. كيف يمكن لناس أن يقدّروا أعمالا توصف بالجريدة على أنّها ’فنّ مفاهيمي،‘ أو تلك الأعمال التي بالنسبة لكاتب مرموق تُعلّق الأهميّة على المفاهيم والنظريّات والمصطلحات الأجنبيّة (بالتالي، يمكن أن ندعوا هذه الأعمال ’فنا مصطلحيّا‘)؟ كيف يمكن للناس أن يفهموا هذه الأشياء التي تمّ العثور عليها أو المستعملة المعروضة في دور العرض وتُدعى فنا معاصرا؟ لوحات ونحت بأساليب غرائبيّة ومجرّدة؟ ترتيب مجموعة من الأشياء المتنوّعة وتُدعى تجهيزا فراغيّا؟ تعرية أو تعذيب ذاتي خادع يُدعى فن الجسد؟ صور فوتوغرافيّة لمشاهير أو رؤساء دول مصفوفة بألوان مختلفة تُدعى فن بوب (شعبي)؟ سلسلة من صور تتحرّك باستمرار تسبب الشعور بالدوخة، ومملة بالمطلق تُدعى فن وسائل جديدة أو فن فيديو للجيل المديني الجديد؟ آه، ما هذا؟ لن يؤدّي أيّ من هذا إلاّ لإرباك الناس.
سيقول مؤيّدو الفن المعاصر ببساطة أنّ الناس أو أيّ أحد يفكّر بهذه الطريقة هم أولئك الذين لا يفهمون الفن وبالتالي لا يحتاج الفن المعاصر أن يفكّر بالناس ومشاكلهم.
بالفعل، أثبت التاريخ أنّه ليس للفن (الحديث) أيّ صلة مع اهتمامات الناس وليس مقصودا لهم. في جافا أوائل القرن العشرين، كانت لوحات موي إندي (Mooi Indie) وأعمال من جمعيّة باتافيان الملكيّة للفن والعلوم وقسم علم الآثار في باتافيا مقصودة للهولنديين أو المحليين من الطبقة الاجتماعيّة العالية الذين حصلوا على هذه اللوحات من
الـ كونستكرينجين (نادي فن) حيث كانت العضويّة فيه حصريّة. اشتغلت جمعيّة باتافيان الملكيّة للفن والعلوم وقسم علم الآثار باسم العلوم وادّعت أنّ هدفها هو حفْظ وترميم ودراسة المُنتحات الأندونيسيّة القديمة. لعب العلماء الأوروبيّون من هذه المؤسسات دورا أساسيّا في نقل المعرفة وتشكيل الذوق الفنّي في ذلك الوقت. بطبيعة الحال، كانت أعمالهم مكتوبة باللغات الأوروبيّة فبالتالي تنقّلت المعرفة في حلقة ضيّقة بين الأوروبيين والمحليين من الطبقات الاجتماعيّة العالية.
في ثلاثينات القرن الماضي، حاول س. سودجوجونو [2] أن يأخذ موقفا مضدّ النخبويّة الفنيّة بالتأكيد على أنّ الفنانين الأندونيسيين يجب أن يقدّموا غير تلك الصور التي تبدو هادئة لبيوت القش أوالجبال الزرقاء أو أيّ شئ يبدو رومانسيّا وجميلا ولطيفا ولكن أن يرسموا مصانع السكّر والفلاحين النحلاء وسيّارات الأغنياء وبناطيل الفقراء القصيرة والصنادل والبناطيل والمعاطف التي يرتديها الناس في الشوارع. عندما كتب في الأربعينات منشوره الهام، "كامي تاهو، كي مانا سيني لوكيس أندونيسيا هينداك كامي باوا" (نعرف إلى أين يجب أن نتّجه باللوحات الأندونيسيّة)، كرر سودجوجونو ثانية أنّ الحقيقة أهمّ من الجمال في التصوير، بما أنّ ما هو جميل ليس يالضرورة حقيقيّ، في حين ما هو حقيقيّ هو بالضرورة جميل. روى عن الولد الصغير في الملابس العسكريّة، كاملة مع القبّعة والسيف والجزمة. هل هذا جميل؟ لا، لأنّ جمال ولد صغير، قال سودجوجونو، يظهر عندما يكون متّسخا، مغطّى بالطين، يركض بحريّة وعاري. لماذا هذا جميل؟ لأنّها هذه هي حقيقة ولد صغير.
وبشعوره بالغضب تجاه الفنانين الذين لا يخدمون إلاّ ذوق المستعمر والمحليّون من الطبقة الاجتماعيّة العليا، قال سودجوجونو أنّ مصوري أندونيسيا قد انتهوا بسبب جشعهم للمال. كان سودجوجونو مخطئا وبالتأكيد لم يتخيّل أنّ التصوير بعد عشر سنوات سيلتقط فعلا سيّارات المُلاّك والبناطيل القصيرة التي يرتديها الأولاد الفقراء والصنادل والبناطيل والمعاطف التي يرتديها الناس في الشوارع، لوحات تصوّر ولدا مغطّى بالطين ويركض عاريا وبحريّة، وكلّ اللوحات التي تبيّن اتّجاهات ضدّ الفاشيّة وضدّ العسكريّة ستصبح أكثر السلع طلبا. الناقص في فكرة سودجوجونو هو أنّه، في الفن المعاصر، ليس هناك حقيقة. الحقيقة الوحيدة هو ما يمكن أن نسمّيه 3ك (’كيوريتور، كريتيكوس، كوليكتور‘ (مرادفات بالأندونيسيّة لكلمات لها المعنى واللفظ ذاتهما في لغتها الأصليّة الانجليزيّة) ’القائم على المعرض، الناقد، المقتني‘). لن نجد أيّ جمال كذلك، ما عدا الـ 3ك. وكذلك، بالطبع، يجب على الفنان أن يكون ماهرا بالقيام بالـ 3ك (’كونجكاليكأونغ،‘ ’أي التعاون بشكل ضمنيّ‘) مع الـ 3ك التي سبق ذكرها. هذا هو السبب أنّ الفن المعاصر لا يتعدّى كونه فن الخداع.
إذا قال أحدهم أنّ الفن المعاصر مدفوع بالسوق، فمن الواضح أنّ هذه العبارة ليست غير دقيقة. إنّها صحيحة بالمطلق. لن نجد أيّ أجندة (خطّة) للتفاعل الاجتماعي في الفن المعاصر. إن قال الناس في الماضي أنّ ’المضمون‘ في الفن هو فائدته للناس، فليست هناك خطّة اليوم للتفكير بهكذا فائدة. إن كان الفن، إذا، مُفسّرا بكلمات صعبة وفلسفة معقّدة ونظريّات دقيقة التفاصيل، فهذه جميعا أجزاء من استراتيجيّة التسويق، والأكثر أهميّة هو التأمّل في غياب هذا المضمون، بما أنّ الفن المعاصر لا يتجاوز كونه فنا مصطلحاتيّا، فنًّا ثَرثاراً.
بالتالي، إذا ألقينا نظرة ثانية نحو سؤال بوبوك، ما هو دور الفن المعاصر بالنسبة للناس؟ بالتأكيد، ليس له دور. إذا، ما هو الخطأ والخطير؟ الخطأ والخطير هو حين يقول أحدهم أنّ الفن المعاصر مفيد للناس. الخطأ والخطير هو حين يستهلك هذا الفن المرافق العامّة بشكل مبالغ ويهيمن على البرامج التعليميّة في المدارس وأعمدة الجرائد وغرف العرض.
ملاحظات:
Antariksa
Art activist and author. Founding member of KUNCI Cultural Studies Center (http://kunci.or.id). Lives in Yogyakarta, Indonesia.
أنتاريكسا
ناشط فنيّ ومؤلّف. عضو مؤسس لمركز الدراسات الثقافيّة KUNCI. يعيش في يوجياكارتا، أندونيسيا.